الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأيضا فكل مسلم يعلم من نفسه أن هذه الشدائد العامة لم يتركها هو وأصحابه لشخص معين، بل دعوا الله سبحانه كما يدعونه عند الاستسقاء، وكما يدعونه عند الاستنصار على الأعداء، لا أحد يرفع أمره إلى غير الله، اللهم إلا ما يقوله بعض الناس لبعض كما جرت به العادة، فمن الأدنى الذي يرفع هذه الأمور إلى الأعلى؟

وأيضا فقد أخبر الله عن المشركين أنهم يدعونه إذا مسهم الضر مخلصين له الدين، فيجيبهم، قال تعالى:وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا . وقال تعالى: وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين [ ص: 109 ] ما كانوا يعملون . وقال تعالى: فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون . ونظائره في القرآن كثيرة.

وقد قال تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ، فهو سبحانه قريب مجيب.

وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: "إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريبا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته".

وقد قال الخليل: إن ربي لسميع الدعاء ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون في الصلاة: "سمع الله لمن حمده". فإذا كان هو سبحانه سميع الدعاء، مجيبا لدعوة عباده، قريبا منهم، يجيب الكفار إذا دعوه مضطرين، فكيف يحوج عباده المؤمنين إلى وسائط في رفع حوائجهم إليه كما يفعله الملوك؟

وهو سبحانه يكلم عباده يوم القيامة ليس بينه وبينهم حاجب [ ص: 110 ] ولا ترجمان، كما في الصحيح عن عدي بن حاتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه، وينظر أمامه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل، فإن لم يستطع فبكلمة طيبة".

والمصلي يقول في الصلاة: إياك نعبد وإياك نستعين . وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن المصلي يناجي ربه"، وقال : "إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن الله قبل وجهه، فلا يبصقن قبل وجهه". فإذا كان العبد يناجي ربه ويخاطبه، والله يسمع كلامه ويجيب دعاءه، فأين حاجته إلى الوسائط التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ التي يعلم كل عاقل من أهل الإيمان أنها من تأويل أهل الشرك والبهتان. وشواهد هذه الأصول كثيرة، قد بسطت في غير هذا الموضع.

والكتاب والسنة مملوء بما يناقض دعوى هؤلاء المفترين. [ ص: 111 ]

وهذا كله- الذي عليه هم- شعبة قوية من شعب دين النصارى، الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون .

وقد أمرنا الله أن نقول في صلواتنا: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون" . فاليهود شبهوا الخالق بخلقه، فوصفوه بصفات النقص والعيب، كالفقر والبخل واللغوب. والنصارى شبهوا المخلوق بالخالق، فوصفوه بصفات الإلهية التي لا يستحقها إلا الله، حتى أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا. ولهذا قال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا .

وقال تعالى: المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله [ ص: 112 ] الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام .

وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله". وقد حسم - صلى الله عليه وسلم - مواد الشرك قولا وعملا، حتى قال: "لا يقولن أحدكم: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن ما شاء الله ثم شاء محمد" . وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" . وقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يحذر ما فعلوا .

وقال قبل أن يموت بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون [ ص: 113 ] القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك" . ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها .

والله سبحانه لم يأمر مخلوقا أن يسأل مخلوقا
وإن كان بدأ باسمه بالسؤال أحدا، فلم يأمره به، بل قال تعالى: فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب . وقال لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" .

وفي الصحيح عنه أنه قال في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب: "هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون". فجعل من فضائلهم أنهم لا يطلبون من غيرهم رقية وإن كانت الرقية دعاء. فهذا وصف خواص عباد الله. وهذا باب واسع، قد بسط في غير هذا الموضع . [ ص: 114 ]

وغاية ما يراد بالمشايخ الصالحين ما يراد من الأنبياء والمرسلين، والمراد منهم تبليغ رسالات الله وهداية عباد الله، والدعوة إلى الله، هذا هو المقصود الأعظم. ولهم أيضا من الدعاء لعباد الله والشفاعة لهم ما هو من الأمور المطلوبة، لكن الأمر كله لله، وقد جعل الله لكل شيء قدرا.

ودعاء الله من الأنبياء والمؤمنين للعبد هو من نعم الله عليه، وأسعد الناس بذلك أعظم إخلاصا لله وتوكلا عليه، كما في الصحيح أن أبا هريرة قال: يا رسول الله، أي الناس أسعد بشفاعتك؟ قال: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد قبلك، أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله".

فالعبد مأمور أن لا يتوكل إلا على الله،
ولا يرغب إلا إليه، ولا يخاف إلا إياه، ولا يعمل إلا له. والله ييسر له من الأسباب ما لم يكن له في حساب، فإنه سبحانه يتولى الصالحين، وهو كاف عبده، وقد قال تعالى: يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين الله، فهو وحده كاف عباده لا يحتاج إلى ظهير ولا شريك. قال تعالى: وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من [ ص: 115 ] الذل . فإن المخلوق ذليل يتولى من يتولاه لذله، فإنه إن لم يكن له من يعينه وينصره عجز وذل، وقهره عدوه. والله تعالى لا يوالي عباده من الذل، بل برحمته وفضله وجوده وإحسانه، وهو الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن . قال تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له .

وقال تعالى: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون . وقال تعالى: إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا .

وهذا كثير في كتاب الله، والله سبحانه أعلم. كتبه أحمد بن تيمية.

التالي السابق


الخدمات العلمية