الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[غزوة بدر]

ومن الحوادث في هذه السنة: غزاة بدر ، وكانت في صبيحة سبعة عشر يوما من رمضان يوم الجمعة . وقيل: تسعة عشر . والأول أصح .

قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا ابن حيويه قال: أخبرنا ابن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: أخبرنا محمد بن سعد قال: أخبرنا الفضل بن دكين قال: أخبرنا زكريا ، عن عامر :

أن بدرا إنما كانت لرجل يدعى بدرا ، يعني: بئرا .

قال: وقال الواقدي وأصحابنا من أهل المدينة ومن يروي السيرة يقولون: بدر اسم الموضع .

وكان الذي هاج هذه الوقعة وغيرها من الحروب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين قتل عمرو بن الحضرمي . فتحين رسول الله صلى الله عليه وسلم انصراف العير التي طلبها بذي العشيرة ، فبعث طلحة ، وسعيد بن زيد يتحسسان خبرها ، فلما رجعا وجدا النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج ، وكان قد ندب أصحابه وأخبرهم بما مع أبي سفيان من المال مع قلة عدده فخرج أقوام منهم لطلب الغنيمة ، وقعد آخرون لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا فلم يلمهم ، لأنه لم يخرج لقتال ، وكان خروجه يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان - وقيل لثلاث خلون من رمضان - على رأس تسعة عشر شهرا من الهجرة ، واستخلف على المدينة عمرو بن أم مكتوم ، وخرجت معه الأنصار ولم يكن غزا بأحد منهم قبلها ، وضرب عسكره ببئر أبي عتبة على ميل من المدينة يعرض أصحابه ، ورد من [ ص: 98 ] استصغر ، وخلف عثمان على رقية وكانت مريضة ، وبعث طلحة وسعيدا على ما ذكر ، فقدما وقد فاتت بدر ، وخلف أبا لبابة بن عبد المنذر على المدينة ، وعاصم بن عدي على أهل العالية ، والحارث بن حاطب رده من الروحاء إلى بني عمرو بن عوف لشيء بلغه عنهم ، والحارث بن الصمة كسر بالروحاء . وخوات بن جبير كسر أيضا ، وكل هؤلاء ضرب له سهمه وأجره ، وكانت الإبل معه سبعين ، يتعاقب النفير على البعير ، وكانت الخيل فرسين: فرس للمقداد ، وفرس لمرثد بن أبي مرثد . وفي رواية: وفرس للزبير .

وقد روى زر عن ابن مسعود قال: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير ، وكان أبو لبابة وعلي زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالا: اركب حتى نمشي عنك . فيقول: "ما أنتما بأقوى مني على المشي ، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما" . قال العلماء: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عينين له إلى المشركين: بسبس بن عمرو ، وعدي بن أبي الزغباء . وجعل على الساقة: قيس بن أبي صعصعة ، فلما بلغ أبا سفيان خروج رسول الله ليأخذ ما معه استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري ، فبعثه إلى مكة ليستنفر قريشا لأجل أموالهم ، فخرج ضمضم سريعا .

وكانت عاتكة بنت عبد المطلب قد رأت قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها ، فأخبرت بها أخاها العباس وأمرته أن يكتم ذلك . قالت: رأيت راكبا على بعير له حتى وقف بالأبطح ، ثم صرخ بأعلى صوته: أن انفروا يا أهل غدر لمصارعكم في ثلاث . فاجتمعوا إليه ، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه ، فبينا هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة يصرخ بأعلى صوته: انفروا يا أهل غدر [ ص: 99 ] لمصارعكم في ثلاث ، ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس ، فصرخ بمثلها ، ثم أخذ صخرة فأرسلها ، فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت ، فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا دخلت منها فلقة .

فقال لها العباس: اكتميها . ثم لقي الوليد بن عتبة - وكان صديقا له - فذكرها له واستكتمه ، فذكرها الوليد لأبيه عتبة ، ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش .

فقال العباس: فلقيني أبو جهل فقال: يا أبا الفضل ، متى حدثت فيكم هذه النبية؟

قلت: وما ذاك؟ قال: الرؤيا التي رأت عاتكة . قلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبد المطلب ، أما رضيتم أن تتنبى رجالكم حتى تتنبى نساؤكم؟! وقد زعمت عاتكة أنه قال: انفروا في ثلاث فنتربص بكم هذه الثلاث ، فإن يكن ما قالت حقا فسيكون ، وإن مضى الثلاث ، ولم يكن من ذلك شيء فنكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب .

قال العباس: فجحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا ، ثم تفرقنا ، فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع ، ثم لم يكن عندك غيرة لما قد سمعت؟

فقلت: قد والله فعلت ذلك ، وايم الله لأتعرضن له ، فإن عاد لأكفيتكموه .

قال: فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة ، وأنا مغضب أرى أن قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه ، فدخلت المسجد فرأيته ، فوالله إني لأمشي نحوه أتعرض له ليعود لبعض ما قال ، فأقع فيه ، إذ خرج نحو باب المسجد يشتد ، فقلت في نفسي: ما له لعنه الله؟ أكل هذا فرقا من أن أشاتمه ، وإذا هو قد سمع ما لم أسمع: صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره قد جدع بعيره ، وشق قميصه ، وهو يقول: يا معشر قريش ، اللطيمة اللطيمة ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد وأصحابه ، لا أرى أن تدركوها ، الغوث الغوث .

قال: فشغلني عنه ، وشغله عني ما جاء من الأمر ، فتجهز الناس سراعا وقالوا: يظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟ كلا والله ليعلمن غير ذلك .

وكانوا بين رجلين: إما خارج ، وإما باعث مكانه رجلا ، وأوعبت قريش ولم [ ص: 100 ] يتخلف من أشرافها أحد ، إلا أن أبا لهب بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة ، وكان أمية بن خلف شيخا ثقيلا فأجمع القعود ، فأتاه عقبة بن أبي معيط بمجمرة فيها نار ، فوضعها بين يديه ، ثم قال له: استجمر فإنما أنت من النساء ، قال: قبحك الله وقبح ما جئت به . ثم تجهز وخرج [مع] الناس ، فلما أجمعوا السير ذكروا ما بينهم وبين كنانة ، فقالوا: نخشى أن يأتونا من خلفنا . فتبدى لهم إبليس في صورة مالك بن جعشم ، وكان من أشراف كنانة ، فخرجوا سراعا معهم القيان والدفوف ، وكانوا تسعمائة وخمسين مقاتلا ، وكانت خيلهم مائة فرس .

وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم ، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش ، فقام أبو بكر فقال فأحسن ، ثم قام عمر فقال فأحسن ، ثم قام المقداد فقال: امض يا رسول الله لما أمرك الله ، فنحن معك ، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى "برك الغماد" - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا .

قال ابن إسحاق : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس ، أشيروا علي" وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم قالوا حين بايعوه بالعقبة: إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا ، نمنعك مما نمنع به نساءنا وأبناءنا .

وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو ، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله . قال: "أجل" قال: فقد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك عهودنا على السمع والطاعة ، فامض لما أردت ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء ، لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله تعالى .

فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك ، ثم قال: "سيروا على بركة الله ، [ ص: 101 ] وأبشروا فإن الله عز وجل قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم" .

ثم سار حتى نزل قريبا من بدر ، فنزل هو ورجل من أصحابه حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم؟ فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني من أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أخبرتنا أخبرناك" فقال: وذاك بذاك؟ فقال: "نعم" . قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان صدقني الذي أخبرني فهو اليوم بمكان كذا وكذا - للمكان الذي به رسول الله صلى الله عليه وسلم - وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان الذي حدثني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا - للمكان الذي به قريش - فلما خبره قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن من ماء" وانصرف .

قال مؤلف الكتاب: أوهمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من العراق ، وكان العراق يسمى: ماء ، وإنما أراد به: خلق من نطفة ماء .

قال ابن إسحاق : ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ، فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب ، والزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون له الخبر ، فأصابوا راوية لقريش فيها: أسلم غلام [بني] الحجاج ، وعرباص أبو سيار غلام [بني] العاص بن سعيد ، فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي فسألوهما ، فقالوا: نحن سقاة قريش ، بعثوا بنا لنسقيهم من الماء . فرجا القوم أن يكونا لأبي سفيان ، فضربوهما ، فقالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال: "إذا صدقاكم ضربتموهما ، وإذا كذباكم تركتموهما ، صدقا والله إنهما لقريش ، أخبراني أين قريش؟" قالوا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى ، والكثيب العقنقل . قال: "كم القوم؟" قالا: كثير . قال: "كم عدتهم؟" قالا: لا ندري . قال: "كم ينحرون؟" قالا: يوما تسعا ويوما عشرا . قال: [ ص: 102 ] "القوم ما بين التسعمائة إلى الألف" قال: "فمن منهم من أشراف قريش؟" قالا: عتبة ، وشيبة ، وأبو البختري ، وحكيم بن حزام ، والحارث بن عامر ، وطعيمة بن عدي ، والنضر بن الحارث ، وزمعة بن الأسود ، وأبو جهل ، وأمية بن خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وسهيل بن عمرو ، وعمرو بن عبد ود . فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي الناس فقال:

"هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها" . وأما أبو سفيان فإنه أسرع بالعير على طريق الساحل ، وأقبلت قريش ، فلما نزلوا الجحفة رأى جهم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف رؤيا فقال: إني رأيت فيما يرى النائم ، أو أني بين النائم واليقظان ، إذ نظرت إلى رجل أقبل على فرس حتى وقف ومعه بعير له ، ثم قال: قتل عتبة ، وشيبة ، وأبو الحكم بن هشام ، وأمية ، وفلان وفلان - فعد رجالا ممن قتل يومئذ من أشراف قريش - ورأيته ضرب في لبة بعيره ثم أرسله في العسكر فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه .

قال: فبلغت أبا جهل ، فقال: وهذا [أيضا] نبي آخر من بني عبد المطلب ، سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا .

ولما رأى أبو سفيان [أنه] قد أحرز عيره أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم وأموالكم ، وقد نجاها الله فارجعوا . فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرا - وكان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام - فنقيم عليه ثلاثا ، وننحر الجزور ، ونطعم الطعام ، ونسقي الخمور ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب ، فلا يزالون يهابوننا أبدا ، فامضوا .

فقال الأخنس بن شريق : يا بني زهرة ، قد نجا الله أموالكم فارجعوا ولا تسمعوا ما يقول هذا ، فرجعوا ولم يشهدها زهري . [ ص: 103 ]

وبلغ أبا سفيان قول أبي جهل فقال: وا قوماه ، هذا عمل عمرو بن هشام - يعني أبا جهل - ثم لحق المشركين ، فمضى معهم فجرح يوم بدر جراحات ، وأفلت هاربا على قدميه ، ومضت قريش حتى نزلت بالعدوة القصوى من الوادي خلف العقنقل ، وبعث الله عز وجل السماء ، وكان الوادي دهسا ، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم المسير ، وأصاب قريش منها ماء لم يقدروا على أن يرتحلوا معه .

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء ، حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به .

فحدثت عن رجال من بني سلمة : أنهم ذكروا أن الحباب بن المنذر قال: يا رسول الله ، أرأيت هذا المنزل ، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخره ، أم هو الرأي في الحرب؟ قال: "بل هو الرأي [بالحرب] " فقال: يا رسول الله ، فإن هذا ليس لك بمنزل ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم [فننزله ، ثم نغور ما سواه من القلب ، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ، ثم نقاتل القوم ، فنشرب ولا يشربون .

فنزل جبريل فقال: الرأي ما أشار به الحباب . فنهض ومن معه حتى أتى أدنى ماء من القوم] فنزل عليه ، وأمر بالقلب فغورت ، وبنى حوضا على القليب الذي كان عليه ، [ثم] قذفوا فيه الآنية .
فحدثني عبد الله بن أبي بكر : أن سعد بن معاذ قال: يا رسول الله ، أبني لك عريشا من جريد فتكون فيه ، وتعد عندك ركائبك ، ثم نلقى [عدونا] ، فإن أعزنا الله [ ص: 104 ] وأظهرنا كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا ، فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حبا لك منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك ، يمنعك الله تعالى بهم ، يناصحونك ويجاهدون معك .

فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير ، وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش فكان فيه ، ثم أقبلت قريش ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها ، تحاربك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني"
.

فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حكيم بن حزام على فرس له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوهم" . فما شرب منهم رجل إلا أسر أو قتل إلا حكيم بن حزام ، فإنه نجا على فرس له ، ثم أسلم ، فكان يقول إذا حلف: لا والذي نجاني يوم بدر .

فلما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب اللخمي فقالوا: أحرز لنا أصحاب محمد ، فجال بفرسه نحو العسكر ، ثم رجع فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون ، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين ، فضرب في الوادي حتى أبعد ، فلم ير شيئا ، فرجع فقال: ما رأيت شيئا ، ولكني قد رأيت يا معشر قريش الولايا تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم ، والله ما أرى أن يقتل منهم رجل حتى يقتل منكم رجالا ، فإذا أصابوا أعدادهم فما خير في العيش بعد ذلك ، فردوا رأيكم . فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى إلى عتبة فقال: يا أبا الوليد ، إنك كبير قريش وسيدها ، هل لك في أن لا تزال تذكر بخير [إلى آخر] الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي . قال: قد فعلت .

أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة [ ص: 105 ] قال: أخبرنا أبو طاهر المخلص قال: أخبرنا أحمد بن سليمان بن داود الطوسي قال: أخبرنا الزبير بن بكار قال: حدثني عمامة بن عمرو السهمي ، عن مسور بن عبد الملك اليربوعي ، عن أبيه ، عن سعيد بن المسيب ، عن حكيم بن حزام قال: خرجنا حتى إذا نزلنا الجحفة رجعت قبيلة من قبائل قريش بأسرها ، وهي: زهرة ، فلم يشهد أحد من مشركيهم بدرا ، ثم خرجنا حتى نزلنا العدوة ، فجئت عتبة بن ربيعة ، فقلت: يا أبا الوليد ، هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت؟ قال: أفعل ماذا؟ قلت: إنكم لا تطلبون من محمد إلا دم الحضرمي وهو حليفك ، فتحمل بديته ، وترجع بالناس . ، فقال لي: فأنت وذاك ، فأنا أتحمل بدية حليفي ، فاذهب إلى ابن الحنظلية - يعني: أبا جهل - فقل له: هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك؟

فجئته فإذا هو بجماعة من بين يديه ومن ورائه ، وإذا ابن الحضرمي واقف على رأسه وهو يقول: فسخت عقدي من بني عبد شمس ، وعقدي إلى بني مخزوم . فقلت له: يقول لك عتبة: هل لك أن ترجع بالناس عن ابن عمك؟ قال: أما وجد رسولا غيرك؟ فخرجت أبادر إلى عتبة ، وعتبة متكئ على إيماء بن رخصة ، وقد أهدى إلى المشركين عشر جزائر ، فطلع أبو جهل والشر في وجهه ، فقال لعتبة: انتفخ سحرك! فقال له عتبة: ستعلم! فسل أبو جهل سيفه ، فضرب به متن فرسه ، فقال إيماء بن رخصة: بئس الفأل هذا! فعند ذلك قامت الحرب .

أخبرنا ابن الحصين ، أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: أخبرنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال: سمعت حارثة بن مضرب يحدث عن علي رضي الله عنه قال: لقد رأيتنا ليلة بدر وما منا إنسان إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان يصلي إلى [ ص: 106 ] شجرة ويدعو حتى أصبح ، وما كان منا فارس يوم بدر غير المقداد بن الأسود .

قال ابن إسحاق : وقام عتبة خطيبا فقال: يا معشر قريش ، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا ، فوالله لئن أصبتموه لا يزال رجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه ، قتل ابن عمه أو ابن خاله ، أو رجالا من عشيرته ، فارجعوا أو خلوا بين محمد وسائر العرب ، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم ، فإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه لما تريدون .

قال حكيم: وجئت إلى أبي جهل فوجدته قد نثل درعا له من جرابها ، فهو يهيئها ، فقلت: إن عتبة أرسلني بكذا وكذا ، فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمدا ، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، وما بعتبة ما قال ، لكنه قد رأى محمدا وأصحابه أكلة جزور ، وفيهم ابنه فقد تخوفكم عليه - يعني أبا حذيفة بن عتبة وكان قد أسلم - ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي فقال له: هذا حليفك ، يريد أن يرجع بالناس ، وقد رأيت ثأرك بعينك ، فقم فانشد مقتل أخيك .

فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ: وا عمراه! فحميت الحرب ، وطلب عتبة بيضة يدخلها رأسه فما وجد في الجيش بيضة تمنعه من عظم رأسه ، فاعتجز ببرد له .

التالي السابق


الخدمات العلمية