الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفي هذه الغزاة كان حديث الإفك

أخبرنا هبة الله بن محمد ، قال: أخبرنا الحسين بن علي ، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر ، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي قال: أخبرنا عبد الرزاق ، قال: حدثنا معمر ، عن الزهري ، قال: أخبرني سعيد بن المسيب ، و عروة بن الزبير ، وعلقمة بن أبي وقاص ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن حديث عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، فبرأها الله عز وجل ، وكلهم حدثني بطائفة من حديثها ، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصا ، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني ، وبعض حديثهم يصدق بعضا ، ذكروا: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا ، أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه .

قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزاة غزاها ، فخرج فيها سهمي ، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعد أن نزل الحجاب ، وأنا أحمل في هودجي ، وأنزل فيه مسيرنا ، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته وقفل ودنونا من المدينة آذن بالرحيل ، فقمت حين أذنوا بالرحيل ، فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل ، فلمست صدري فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي ، فحبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي ، فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب ، وهم يحسبون أني فيه .

قالت: وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلهن ولم يغشهن اللحم ، إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل ، وساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش ، فجئت بها منازلهم [ ص: 222 ] وليس بها داع ولا مجيب ، فتيممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إلي .

فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ، ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش ، فأدلج فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني حين رآني ، وقد كان يراني قبل أن يضرب علي الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ، فو الله ما كلمني كلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته ، فوطئ على يدها فركبتها ، فانطلق يقود الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة ، فهلك من هلك في شأني ، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول ، فقدمت المدينة ، فاشتكيت حين قدمنا شهرا ، والناس يفيضون في قول الإفك ، ولا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أعرف منه حين أشتكي ، إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم فيقول: كيف تيكم؟ فذاك يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت ، وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع ، وهو مبرزنا ، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه ، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا ، فانطلقت أنا وأم مسطح ، وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف ، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق ، وابنها مسطح بن أثاثة ، فأقبلت أنا وبنت أبي رهم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها ، فقالت: تعس مسطح ، فقلت لها: بئسما قلت! تسبين رجلا قد شهد بدرا؟! قالت: أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال؟! قلت: وماذا قال؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضا على مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال: "كيف تيكم" ؟ قلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلها ، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أماه ما يتحدث الناس؟ فقالت: أي بنية ، هوني عليك ، فو الله لقل ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ، ولها ضرائر إلا أكثرن عليها ، قالت: قلت: سبحان الله ، أو قد تحدث الناس بهذا؟! قالت: فبكيت تلك الليلة [ ص: 223 ]

حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت أبكي ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ، وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي ليستشيرهما في فراق أهله ، قالت: فأما أسامة بن زيد ، فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم من نفسه لهم من الود ، فقال: يا رسول الله هم أهلك ، ولا نعلم إلا خيرا ، وأما علي بن أبي طالب فقال: لم يضيق الله عز وجل عليك والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية تصدقك .

قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ، فقال: "أي بريرة ، هل رأيت من شيء يريبك من عائشة " ؟ فقالت له بريرة: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قط أغمضه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فيأكله ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي ، فقال وهو على المنبر: "يا معشر المسلمين ، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي ، فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا لي رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وكان لا يدخل على أهلي إلا معي" ، فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أعذرك منه يا رسول الله ، إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ، فقام سعد بن عبادة ، وهو سيد الخزرج ، وكان رجلا صالحا ، ولكنه احتملته الحمية ، فقال [لسعد بن معاذ] : لعمرك لا تقتله ولا تقدر على قتله ، فقام أسيد بن حضير ، وهو ابن عم سعد بن معاذ ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لتقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين .

فثار الحيان الأوس والخزرج ، حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت .

قالت: فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ دمع ولا أكتحل بنوم ، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي .

قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذن علي امرأة من الأنصار ، فأذنت لها فجلست تبكي معي ، فبينا نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس ، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل ، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني شيء . قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ، ثم قال: "أما بعد يا عائشة ؛ فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله عز وجل ، وإن كنت ألممت بذنب [ ص: 224 ]

فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه .

قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته ، فاض دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: والله ما أدري ما أقول يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت: والله ما أدري ما أقول يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: فقلت: وأنا جارية حديثة السن ، لا أقرأ كثيرا من القرآن ، وإني والله قد عرفت أنكم قد سمعتم هذا حتى استقر في نفوسكم وصدقتم ، ولئن قلت لكم إني بريئة والله عز وجل يعلم أني بريئة ، فلا تصدقوني بذلك ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة تصدقوني ، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون .

قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ، وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله عز وجل مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي ، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله عز وجل في بأمر يتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله عز وجل بها ، قالت: فو الله ما رام رسول الله مجلسه ، ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله عز وجل على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتيمن ثقل القول الذي أنزل عليه ، قالت: فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: "أبشري يا عائشة ، أما والله عز وجل فقد برأك" ، فقالت أمي: قومي إليه ، فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل هو الذي أنزل براءتي ، وأنزل الله عز وجل: إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم عشر آيات ، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات براءتي .

فقال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا ، بعد الذي قال لعائشة . فأنزل الله عز وجل: ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة إلى قوله: ألا تحبون أن يغفر الله لكم .

[ ص: 225 ]

فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله عز وجل لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه ، وقال: لا أنزعها منه أبدا .

قالت عائشة رضي الله عنها: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري ، وما علمت أو ما رأيت أو ما سمعت أو ما بلغك ، قالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت إلا خيرا ، قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فعصمها الله عز وجل بالورع ، وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها ، فهلكت فيمن هلكت .
قال ابن شهاب: وهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط .

أخرجاه في الصحيحين .

وغاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزاة ثمانية عشر يوما ، وقدم لهلال رمضان

التالي السابق


الخدمات العلمية