الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة سبع من الهجرة

فمن الحوادث فيها: غزوة خيبر

في جمادى الأولى ، وخيبر على ثمانية برد من المدينة . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالتهيؤ لغزوة خيبر ، [وخرج] واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة ، وأخرج معه أم سلمة زوجته ، فلما نزل بساحتهم أصبحوا وأفئدتهم تخفق وفتحوا حصونهم ، وغدوا إلى أعمالهم معهم المساحي [والكرازين] والمكاتل ، فلما نظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: محمد والخميس - [يعنون بالخميس الجيش] - فولوا هاربين إلى حصونهم ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الله أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين" . ووعظ الناس وفرق عليهم الرايات ، ولم تكن الرايات إلا يوم خيبر إنما كانت الألوية ، فكانت راية النبي صلى الله عليه وسلم السوداء من بحرد لعائشة رضي الله عنها تدعى العقاب ، ولواؤه أبيض ودفعه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وراية إلى الحباب بن المنذر ، وراية إلى سعد بن عبادة ، وكان شعارهم: "يا منصور أمت" .

وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتا فرس ، فقاتل المشركين وقاتلوه أشد قتال ، وقتلوا من أصحابه ، وقتل منهم ، وفتحها حصنا حصنا ، وهي حصون ذوات عدد ، منها: النطاة ، [ ص: 294 ] ومنها حصن الصعب بن معاذ ، وحصن ناعم ، وحصن قلعة الزبير ، والشق [وبه] حصون ، منها: حصن أبي ، وحصن النزار ، وحصون الكتيبة ، منها: القموص والوطيح وسلالم ، وهو حصن ابن أبي الحقيق ، وأخذ كنز آل أبي الحقيق - وكانوا قد غيبوه في خربة - فدله الله عليه فاستخرجه وقتل منهم ثلاثة وتسعين رجلا من يهود ، منهم:

الحارث أبو زينب ، ومرحب ، وأسير ، وياسر ، وعامر ، وكنانة بن أبي الحقيق ، وأخوه .

واستشهد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر أبو ضياح بن النعمان في خمسة عشر رجلا ، وأمر بالغنائم فجمعت واستعمل عليها فروة بن عمر البياضي ، ثم أمر [بذلك] فجزئ خمسة أجزاء ، وكتب في سهم منها لله ، وأمر ببيع الأربعة أخماس في من يزيد ، فباعها فروة وقسم ذلك بين أصحابه . وكان الذي ولي إحصاء الناس زيد بن ثابت فأحصاهم ألفا وأربعمائة ، والخيل مائتي فرس ، وقدم الدوسيون فيهم أبو هريرة ، وقدم الأشعريون ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ، [فلحقوه بها] ، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يشركوهم في الغنيمة ففعلوا ، وقدم جعفر بن أبي طالب وأهل السفينتين من عند النجاشي بعد فتح خيبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أدري بأيهما أسر: بقدوم جعفر ، أو بفتح خيبر" ؟ وكانت صفية بنت حيي ممن سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ، فأعتقها وتزوجها .

قال ابن عمر : قاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم وغلبهم على الأرض والنخل ، فصالحهم على أن تحقن دماءهم ولهم ما حملت ركابهم ، وللنبي صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والسلاح ويخرجهم ، وشرطوا للنبي صلى الله عليه وسلم أن لا يكتموه شيئا ، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد ، فلما وجد المال الذي غيبوه في مسك الجمل سبى نساءهم ، وغلبهم على الأرض والنخل ودفعها إليهم على الشطر ، فكان ابن رواحة يخرصها عليهم ويضمنهم الشطر .


أخبرنا محمد بن أبي طاهر ، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري ، قال: أخبرنا أبو [ ص: 295 ] عمرو بن حيويه ، قال: أخبرنا أحمد بن معروف الخشاب ، قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، قال: أخبرنا محمد بن سعد ، قال: حدثنا هاشم بن القاسم ، قال: أخبرنا عكرمة بن عمار ، قال: أخبرنا إياس بن سلمة بن الأكوع ، قال: أخبرني أبي ، قال: بارز عمي يوم خيبر مرحب اليهودي ، فقال مرحب:


قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب

إذا الحروب أقبلت تلهب

فقال عمي:


قد علمت خيبر أني عامر     شاكي السلاح بطل مغاور

فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر ، وذهب عامر يسفل له ، فوقع السيف على ساقه فقطع أكحله فكانت فيها نفسه ، فقال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بطل عمل عامر! قتل نفسه! قال سلمة: فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [أبكي] ، فقلت: يا رسول الله ، أبطل عمل عامر؟ قال: "ومن قال ذاك"؟! ، قلت: ناس من أصحابك ، قال: "كذب من قال ذاك ، بل له أجره [مرتين] " ، إنه حين خرج إلى خيبر جعل يرتجز بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، [وفيهم النبي صلى الله عليه وسلم] يسوق الركاب وهو يقول:


تالله لولا الله ما اهتدينا     ولا تصدقنا ولا صلينا
والكافرون قد بغوا علينا     إذا أرادوا فتنة أبينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا     فثبت الأقدام إن لاقينا

وأنزلن سكينة علينا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من هذا" ؟ قالوا: عامر ، قال: "غفر لك ربك" ، قال: وما [ ص: 296 ] استغفر لإنسان قط يخصه إلا استشهد ، فلما سمع ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال: يا رسول الله ، لولا متعتنا بعامر ، فتقدم فاستشهد .

قال سلمة: ثم إن نبي الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إلى علي ، وقال: "لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" فجئت به أقوده أرمد ، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ، ثم أعطاه الراية ، فخرج مرحب يخطر بسيفه ، فقال:


قد علمت خيبر أني مرحب     شاكي السلاح بطل مجرب

إذا الحروب أقبلت تلهب

فقال علي رضي الله عنه مجيبا:


أنا الذي سمتني أمي حيدره     كليث غابات كريه المنظره

أوفيهم بالصاع كيل السندره

ففلق رأس مرحب ، وكان الفتح على يديه
. قال ابن سعد : وروي عن ابن عباس ، قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج من خيبر ، قال القوم: الآن نعلم أسرية صفية أم امرأة ، فإن كانت امرأة فإنه سيحجبها ، وإلا فهي سرية ، فلما خرج أمر بستر يستر دونها ، فعلم الناس أنها امرأة ، فلما أرادت أن تركب أدنى فخذه [منها لتركب عليها ، فأبت ووضعت ركبتها على فخذه] ثم حملها ، فلما كان الليل نزل فدخل الفسطاط ودخلت معه ، وجاء أبو أيوب فبات عند الفسطاط ، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع الحركة ، فقال: "من هذا" ؟ فقال: أنا أبو أيوب ، فقال:

"ما شأنك" ؟ قال: يا رسول الله جارية شابة حديثة عهد بعرس ، وقد صنعت بزوجها ما صنعت ، فلم آمنها ، قلت: إن تحركت كنت قريبا منك . فقال: "رحمك الله يا أبا أيوب" مرتين .
[ ص: 297 ]

قال ابن سعد : وأخبرنا عفان ، قال: أخبرنا حماد بن سلمة ، قال: أخبرنا ثابت ، عن أنس ، قال:

وقعت صفية في سهم دحية - وكانت جارية جميلة - فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس ودفعها إلى أم سليم تصنعها وتهيئها ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وليمتها التمر والأقط [والسمن] ، قال: ففحصت الأرض أفاحيص وجيء بالأنطاع فوضعت فيها ثم جيء بالأقط والسمن والتمر ، فشبع الناس .


قال ابن سعد : قال أنس: كان في ذلك السبي صفية بنت حيي ، فصارت إلى دحية الكلبي ، ثم صارت بعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقها ثم تزوجها ، وجعل عتقها صداقها .

قال محمد بن حبيب: في هذه الغزاة أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان سهما ، وأسهم لمن غزا معه من اليهود .

وفيها: سم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سمته زينب امرأة [سلام] بن مشكم ، أهدت له شاة مسمومة ، فأكل منها ، فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاعترفت فقتلها ، ويقال: بل عفى عنها

التالي السابق


الخدمات العلمية