الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
95 - سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس [بن زيد] بن عبد الأشهل ، ويكنى أبا عمرو :

وأمه كبشة بنت رافع ، وهي من المبايعات ، وكان لسعد من الولد ، عمرو ، وعبد الله وأمهما [قيل:] كبشة ، وليس ذلك ، وإنما الأصح أنها هند بنت سماك بن [ ص: 243 ] عتيك من المبايعات خلف عليها سعد بعد أخيه أوس ، وهي عمة أسيد بن حضير .

وكان إسلام سعد على يدي مصعب بن عمير ، وكان مصعب قد قدم المدينة قبل العقبة الآخرة يدعو الناس إلى الإسلام ، ويقرئهم القرآن ، فلما أسلم سعد لم يبق أحد في بني عبد الأشهل إلا أسلم يومئذ ، وكانت دار بني عبد الأشهل أول دار من دور الأنصار أسلموا جميعا رجالهم ونساؤهم ، وحول سعد بن معاذ مصعب بن عمير ، وأسعد بن زرارة إلى داره ، فكانا يدعوان الناس إلى الإسلام في داره ، وكان سعد وأسعد ابني خالة ، وكان سعد وأسيد بن حضير يكسران أصنام بني عبد الأشهل ، وكان لواء الأوس يوم بدر مع سعد بن معاذ ، وشهد يوم أحد وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولى الناس . وأصيب يوم الخندق في أكحله .

وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكر الحمى ، فقال: "من كانت به فهو حظه من النار" ، فسألها سعد بن معاذ فلم تفارقه حتى فارق الدنيا .

وأصيب يوم الخندق في أكحله ، فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبة في المسجد ليعوده من قريب .


أخبرنا محمد بن أبي طاهر ، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري ، قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيويه ، قال: حدثنا أبو الحسن بن معروف ، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم ، قال: أخبرنا محمد بن سعد ، [قال: أخبرنا يزيد بن هارون] .

وأخبرناه عاليا بن الحصين ، قال: أخبرنا ابن المذهب ، قال: أخبرنا القطيعي ، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: أخبرنا يزيد بن هارون ، قال:

أخبرنا محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبيه ، عن جده ، عن عائشة ، قالت :

رمى سعدا رجل من المشركين يقال له ابن العرقة [بسهم له] يوم الخندق

[ ص: 244 ]

[فقال: خذها وأنا ابن العرقة] ، فأصاب أكحله ، فدعا الله سعد فقال: اللهم لا تمتني حتى تشفيني من قريظة - وكانوا مواليه وحلفاءه في الجاهلية - قالت: فرقأ كلمه ، فبعث الله [عز وجل] الريح على المشركين وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا ، فلحق أبو سفيان بمن معه بتهامة ، ولحق عيينة بمن معه بنجد ، ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم ، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فأمر بقبة فضربت على سعد بن معاذ في المسجد ، [قالت] : فجاءه جبريل وعلى ثناياه النقع ، فقال: أوقد وضعت السلاح [فو الله ما وضعت الملائكة السلاح] بعد ، اخرج إلى بني قريظة فقاتلهم . [قالت] : فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ، وأذن في الناس بالرحيل . [قالت: فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني غنم وهم جيران المسجد ، فقال لهم:

"من مر بكم؟" قالوا: مر بنا دحية الكلبي - وكان دحية تشبه لحيته وسنة وجهه بجبريل عليه السلام ، فقالت] : فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة ، فلما اشتد حصرهم [واشتد البلاء عليهم] ، قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستشاروا أبا لبابة [بن عبد المنذر] ، فأشار إليهم أنه الذبح ، فقالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ ، [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انزلوا على حكم سعد بن معاذ" ، فنزلوا على [ ص: 245 ] حكم سعد بن معاذ] ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ فحمل على حمار عليه إكاف من ليف ، وحف به قومه فجعلوا يقولون: يا أبا عمرو ، حلفاؤك ومواليك [وأهل النكاية] ومن قد علمت ، ولا يرجع إليهم شيئا ، حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه ، فقال: قد أنى لي أن لا أبالي في الله لومة لائم ، فلما طلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال :

"قوموا إلى سيدكم" . فأنزلوه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احكم فيهم" ، فقال: فإني أحكم فيهم بقتل مقاتليهم ، وسبي ذراريهم ، وتقسيم أموالهم ، فقال [رسول الله صلى الله عليه وسلم] : "لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله" . قالت: ثم دعا الله سعد ، فقال: اللهم إن كنت أبقيت على نبيك من حرب قريش شيئا فأبقني لها ، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك . قالت: فانفجر كلمه ، وقد كان برأ حتى ما يرى منه شيء إلا مثل الخرم ، ورجع إلى قبته التي ضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت: فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، قالت: فو الذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر وأنا في حجرتي ، وكانوا كما قال الله عز وجل: رحماء بينهم . قال:

فقلت: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ فقالت: كانت عينه لا تدمع على أحد ، ولكنه كان إذا وجد فإنما هو أخذ بلحيته .
قال محمد بن سعد : حدثنا عفان ، قال: أخبرنا حماد بن سلمة ، عن أبي الزبير ، عن جابر:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ من رميته .

قال [محمد] بن سعد : وأخبرنا وهب بن جرير ، قال: أخبرنا أبي ، قال:

سمعت الحسن يقول: [ ص: 246 ]

لما مات سعد بن معاذ - وكان رجلا جسيما جزلا - جعل المنافقون وهم يمشون خلف سريره يقولون : لم نر كاليوم رجلا أخف ، وقالوا: أتدرون لم ذاك؟ [ذاك] لحكمه في بني قريظة ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: "والذي نفسي بيده لقد كانت الملائكة تحمل سريره" . أخبرنا عبد الأول ، قال: أخبرنا ابن المظفر ، قال: أخبرنا ابن أعين ، قال: حدثنا محمد بن يوسف ، قال: أخبرنا البخاري ، قال: أخبرنا محمد بن المثنى ، قال: أخبرنا فضل بن مساور ، قال: حدثنا أبو عوانة ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ" . أخرجاه في الصحيحين .

وفيهما من حديث البراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بثوب حرير فجعل يتعجب من حسنه ولينه ، فقال: "لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أفضل - أو خير - من هذا" . وقد روى سلمة بن أسلم الأشهلي ، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وما فيه إلا سعد مسجى ، فرأيته يتخطاه ، فوقف فأومأ إلي: "قف" ، فوقفت ورددت من ورائي ، وجلس ساعة ثم خرج ، فقلت: يا رسول الله ، ما رأيت أحدا وقد رأيتك تتخطاه ، فقال:

"ما قدرت على مجلس حتى قبض لي ملك من الملائكة أحد جناحيه" فجلست ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هنيئا لك يا أبا عمرو" ثلاث مرات .
قال سعد بن إبراهيم: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغسل ، فقبض ركبتيه ، وقال:

دخل ملك فلم يكن له مكان فأوسعت له . وغسله أسيد بن حضير وسلمة بن سلام بن وقش ، ونزلا في قبره ومعهما الحارث بن أوس وأبو نائلة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على القبر . وكانت أمه تبكي وتقول: [ ص: 247 ]


ويل ام سعد سعدا براعة ونجدا

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل البواكي يكذبن إلا أم سعد" . وجاءت أم سعد تنظر إليه [في اللحد] فردها الناس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "دعوها" . فنظرت إليه قبل أن يبنى عليه اللبن ، فقالت: "أحتسبك عند الله" وعزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبره ، وتنحى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سوي على قبره ورش عليه الماء ، ثم جاء فوقف عليه فدعا له وانصرف . وكان سعد رجلا أبيض طوالا جميلا ، وتوفي ابن سبع وثلاثين سنة ، ودفن بالبقيع ، وأخذ من تراب قبره فإذا هو مسك .

وروى [ابن] عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: "هذا العبد الصالح الذي تحرك له العرش ، وفتحت له أبواب السماء ، وشهده سبعون ألفا من الملائكة لم ينزلوا الأرض قبل ذلك ، ولقد ضم ضمة ثم أفرج عنه" يعني سعد بن معاذ [رضي الله عنه] .

أخبرنا محمد بن أبي طاهر ، قال: أخبرنا الجوهري ، قال: حدثنا ابن حيويه ، قال: حدثنا ابن معروف ، قال: أخبرنا ابن الفهم ، قال: أخبرنا ابن سعد ، قال: أخبرنا محمد بن الفضيل بن غزوان ، عن عطاء بن السائب ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر سعد فاحتبس ، فلما خرج قيل له: يا رسول الله ، ما حبسك؟

[قال: "ضم سعد في القبر ضمة] فدعوت الله أن يكشف عنه"


التالي السابق


الخدمات العلمية