الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما النزاع المعنوي فيقال : قول القائل: "إنه جوهر كالجواهر، أو جسم كالأجسام" لفظ مجمل ، فإنه قد يراد به أنه مماثل لكل جوهر وكل [ ص: 143 ] جسم، فيما يجب ويجوز ويمتنع عليه، وقد يريد به أنه مماثل لها في القدر المشترك بينها كلها ، بحيث يجب ويجوز ويمتنع عليه، ما يجب ويجوز ويمتنع على ما حصل فيه القدر المشترك منها ، ولو أنه واحد .

فأما الأول فإنه إما أن يقول مع ذلك بتماثل الأجسام والجواهر ، وإما أن يقول باختلافها. فإن قال بتماثلها كان قوله هو القول الثاني ، إذ كان يجوز على كل منها ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، باعتبار ذاته .

وإن قال باختلافها امتنع مع ذلك أن يقول إنه كالأجسام، فإنه من المعلوم على هذا التقدير أن كل جسم ليس هو مثل الآخر ، ولا يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، فكيف يقال في الخالق سبحانه: إنه يجوز عليه ما يجوز على كل مخلوق قائم بنفسه، حتى في الجماد والنبات والحيوان؟!

هذا لا يقوله عاقل، حتى القائلون بوحدة الوجود ، فهؤلاء عندهم هو نفس وجود الأجسام المخلوقة ، ولكن هم مع هذا لا يقولون : إنه يجوز على وجود جميع الموجودات ما يجوز على وجود هذا .

وهذا وإن قال : إنه كالأجسام المخلوقة في القدر المشترك بينها، بحيث يجوز عليه ما يجوز على المجموع، لا على كل واحد واحد -فهذا [ ص: 144 ] أيضا قول معلوم الفساد، ولا نعرف قائلا معروفا يقول به، فإن هذا هو التشبيه والتمثيل، الذي يعلم تنزه الله عنه، إذ كان كل ما سواه مخلوقا، والمخلوقات تشترك في هذا المسمى، فيجوز على المجموع من العدم والحدوث والافتقار ما يجب تنزيه الله عنه، بل لو جاز ووجب وامتنع عليه ما يجوز ويجب ويمتنع على الممكنات والمحدثات، لزم الجمع بين النقيضين ، فإنه يجب له الوجود والقدم ، فلو وجب ذلك للمحدث ، مع أنه لا يجب له ذلك ، لزم أن يكون ذلك واجبا للمحدث غير واجب له ، ولو جاز عليه الإمكان والعدم ، مع أن الواجب بنفسه ، القديم الذي لا يقبل العدم ، لا يجوز عليه الإمكان والعدم للزم أن يمتنع عليه العدم، لا يمتنع عليه ، وأن يجب له الوجود ، لا يجب له ، وذلك جمع بين النقيضين .

فتنزيه الله عما يستحق التنزيه عنه من مماثلة المخلوقين يمنع أن يشاركها في شيء من خصائصها ، سواء كانت تلك الخاصة شاملة لجميع المخلوقات ، أو مختصة ببعضها .

فعلم أن القول بأنه جوهر كالجواهر ، أو جسم كالأجسام ، سواء جعل التشبيه لكل منها ، أو بالقدر المشترك بينها ، لم تقل به طائفة معروفة أصلا . فإن كان النزاع ليس إلا مع هؤلاء فلا نزاع في المسألة فتبقى بحوثه المعنوية في ذلك ضائعة ، وبحوثه اللفظية غير نافعة، مع أني إلى ساعتي هذه لم أقف على قول لطائفة، ولا نقل عن طائفة: أنهم قالوا: [ ص: 145 ] جسم كالأجسام، مع أن مقالة المشبهة الذين يقولون: يد كيدي، وقدم كقدمي، وبصر كبصري، مقالة معروفة . وقد ذكرها الأئمة كيزيد بن هارون ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه وغيرهم وأنكروها وذموها ، ونسبوها إلى مثل داود الجواربي البصري وأمثاله .

ولكن مع هذا صاحب هذه المقالة لا يمثله بكل شيء من الأجسام، بل ببعضها، ولا بد مع ذلك أن يثبتوا التماثل من وجه ، والاختلاف من وجه، لكن إذا أثبتوا من التماثل ما يختص بالمخلوقات، كانوا مبطلين على كل حال .

وفي الجملة الكلام في التمثيل والتشبيه ونفيه عن الله مقام ، والكلام في التجسيم ونفيه مقام آخر . فإن الأول دل على نفيه الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة ، واستفاض عنهم الإنكار على المشبهة الذين يقولون: يد كيدي، وبصر كبصري وقدم كقدمي .

وقد قال الله تعالى: ليس كمثله شيء [سورة الشورى : 11] [ ص: 146 ] وقال تعالى : ولم يكن له كفوا أحد [سورة الإخلاص : 4] وقال هل تعلم له سميا [سورة مريم : 65] وقال تعالى : فلا تجعلوا لله أندادا [سورة البقرة : 22] .

التالي السابق


الخدمات العلمية