الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأيضا فنفي ذلك معروف بالدلائل العقلية التي لا تقبل النقيض ، كما قد بسط الكلام على ذلك في غير موضع ، وأفردنا الكلام على قوله تعالى: ليس كمثله شيء [سورة الشورى : 11] في مصنف مفرد .

وأما الكلام في الجسم والجوهر، ونفيهما أو إثباتهما ، فبدعة ليس لها أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله ، ولا تكلم أحد من السلف والأئمة بذلك، لا نفيا ولا إثباتا .

والنزاع بين المتنازعين في ذلك: بعضه لفظي ، وبعضه معنوي . أخطأ هؤلاء من وجه ، وهؤلاء من وجه. فإن كان النزاع مع من يقول: هو جسم أو جوهر ، إذا قال: لا كالأجسام ولا كالجواهر، إنما هو في اللفظ ، فمن قال: هو كالأجسام والجواهر، يكون الكلام معه بحسب ما يفسره من المعنى .

فإن فسر ذلك بالتشبيه الممتنع على الله تعالى، كان قوله مردودا. وذلك بأن يتضمن قوله إثبات شيء من خصائص المخلوقين لله، فكل قول تضمن هذا فهو باطل . [ ص: 147 ]

وإن فسر قوله : جسم لا كالأجسام بإثبات معنى آخر، مع تنزيه الرب عن خصائص المخلوقين، كان الكلام معه في ثبوت ذلك المعنى وانتفائه .

فلا بد أن يلحظ في هذا المقام إثبات شيء من خصائص المخلوقين للرب أولا، وذلك مثل أن يقول: أصفه بالقدر المشترك بين سائر الأجسام والجواهر ، كما أصفه بالقدر المشترك بينه وبين سائر الموجودات، وبين كل حي عليم سميع بصير ، وإن كنت لا أصفه بما تختص به المخلوقات ، وإلا فلو قال الرجل: هو حي لا كالأحياء، وقادر لا كالقادرين، وعليم لا كالعلماء، وسميع لا كالسمعاء ، وبصير لا كالبصراء، ونحو ذلك، وأراد بذلك نفي خصائص المخلوقين فقد أصاب .

وإن أراد نفي الحقيقة التي للحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك، مثل أن يثبت الألفاظ وينفي المعنى الذي أثبته الله لنفسه ، وهو من صفات كماله، فقد أخطأ .

إذا تبين هذا فالنزاع بين مثبتة الجوهر والجسم ونفاته ، يقع من جهة المعنى في شيئين: أحدهما: أنهم متنازعون في تماثل الأجسام والجواهر على قولين معروفين .

فمن قال بتماثلها، قال: كل من قال: إنه جسم لزمه التمثيل .

ومن قال إنها لا تتماثل، قال: إنه لا يلزمه التمثيل . [ ص: 148 ]

ولهذا كان أولئك يسمون المثبتين للجسم مشبهة، بحسب ما ظنوه لازما لهم، كما يسمي نفاة الصفات لمثبتيها مشبهة ومجسمة ، حتى سموا جميع المثبتة للصفات مشبهة ومجسمة وحشوية، وغثاء ، وغثراء ، ونحو ذلك، بحسب ما ظنوه لازما لهم .

لكن إذا عرف أن صاحب القول لا يلتزم هذه اللوازم ، لم يجز نسبتها إليه على أنها قول له، سواء كانت لازمة في نفس الأمر أو غير لازمة ، بل إن كانت لازمة مع فسادها، دل على فساد قوله .

وعلى هذا فالنزاع بين هؤلاء وهؤلاء في تماثل الأجسام، وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع ، وبين الكلام على جميع حججهم .

والثاني أن مسمى الجسم في اصطلاحهم قد تنازعوا فيه: هل هو مركب من أجزاء منفردة؟ أو من الهيولى والصورة؟ أو لا مركب لا من هذا ولا من هذا؟

وإذا كان مركبا: فهل هو جزآن ، أو ستة أجزاء، أو ثمانية أجزاء، أو ستة عشر جزءا، أو اثنان وثلاثون؟

هذا كله مما تنازع فيه هؤلاء. فمثبتو التركيب المتنازع فيه في الجسم يقولون لأولئك: إنه لازم لكم، إذا قالوا: هو جسم، وأولئك ينفون هذا اللزوم . [ ص: 149 ]

وقد يكون في المجسمة من يقول: إنه جسم مركب من الجواهر المنفردة، وينازعهم في امتناع مثل هذا التركيب عليه، ويقول: لا حجة لكم على نفي ذلك إلا ما أقمتموه من الأدلة على كون الأجسام محدثة أو ممكنة ، وكلها أدلة باطلة ، كما بسط في موضعه .

وبينهم نزاع في أمور أخرى ينازعهم فيها من لا يقول: هو جسم ، مثل كونه فوق العالم، أو كونه ذا قدر، أو كونه متصفا بصفات قائمة به . فالنفاة يقولون : هذه لا تقوم إلا بجسم ، وأولئك قد ينازعونهم في هذا أو بعضه ، وينازعونهم في انتفاء هذا المعنى الذي سموه جسما، فهم ينازعون: إما في التلازم، وإما في انتفاء اللازم .

إذا تبين أن هذه الأمور كلها ترجع إلى هذه الأمور الثلاثة، فإن الحجج الثماني التي ذكرها الآمدي: أربعة على نفي الجوهر ، وأربعة مختصة بالجسم .

التالي السابق


الخدمات العلمية