الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5834 5835 5836 ص: وكان من الحجة لهم في ذلك : أن حديث النعمان الذي ذكرنا قد روي عنه على ما ذكروا ، وليس فيه دليل على أنه كان حينئذ صغيرا ، ولعله كان كبيرا ولم يكن قبضه ، وقد روي أيضا على غير المعنى الذي في الحديث الأول .

                                                حدثنا نصر بن مرزوق ، قال : ثنا الخصيب بن ناصح ، قال : ثنا وهيب ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي هند ، عن عامر الشعبي ، عن النعمان بن بشير قال : " انطلق بي أبي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحلني نحلي ليشهده على ذلك ، فقال : أوكل ولدك نحلته مثل هذا ؟ فقال : لا ، . قال : أيسرك أن يكونوا إليك في البر كلهم سواء ؟ قال : بلى ، قال : فأشهد على هذا غيري " .

                                                فكان في الحديث من قول النبي -عليه السلام - لبشير فيما كان نحله النعمان : " أشهد على هذا غيري " فهذا خلاف ما في الحديث الأول ; لأن هذا لا يدل على فساد العقد الذي كان عقده للنعمان ; لأن النبي -عليه السلام - قد يتوقى الشهادة على ما له أن يشهد عليه ، وعلى الأمور التي قد كانت ، فكذلك لمن بعده ; لأن الشهادة إنما هي أمر يتضمنه الشاهد للمشهود له ، فله أن لا يتضمن ذلك ،

                                                وقد يحتمل غير هذا أيضا ، فيكون قوله : "أشهد على هذا غيري " أي : أنا الإمام ، والإمام ليس من شأنه أن يشهد وإنما من شأنه أن يحكم .

                                                [ ص: 348 ] وفي قوله : "أشهد على هذا غيري " دليل على صحة العقد ،

                                                وقد حدثنا ابن أبي داود ، قال : ثنا آدم ، قال : ثنا ورقاء ، عن المغيرة ، عن الشعبي ، قال : سمعت النعمان على منبرنا هذا يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " سووا بين أولادكم في العطية كما تحبون أن يسووا بينكم في البر " . .

                                                فكان المقصود إليه في هذا الحديث الأمر بالتسوية بينهم في العطية ليستووا جميعا في البر ، وليس فيه شيء من ذكر فساد للعقد المعقود على التفضيل .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي : وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه ، وأراد به الجواب على ما احتجت به أهل المقالة الأولى من حديث النعمان بن بشير على الوجه الذي رووا ، وهو على وجهين :

                                                الأول : بطريق التسليم ، وهو أن يقال : سلمنا أن حديث النعمان قد روي على الوجه الذي رووه ، وهو معنى قوله : "قد روي عنه على ما ذكروا ولكن ليس فيه دليل على أن النعمان كان حينئذ صغيرا ، ولعله قد كان كبيرا حينئذ ولم يكن قد قبضه " فلذلك قال لأبيه بشير : اردده ، فأمر بالرجوع عن ذلك .

                                                فإن قيل : قد قال ابن حزم : كان صغر النعمان أشهر من الشمس ، وأنه ولد بعد الهجرة بلا خلاف من أحد من أهل العلم ، وقد بين ذلك في حديث أبي حيان عن الشعبي ، عن النعمان "وأنا يومئذ غلام " ولا يطلق هذا اللفظ على رجل بالغ .

                                                قلت : نعم ، ولد النعمان بعد الهجرة ، ولكن ابن حزم ما بين تاريخ ميلاده وأبهمه ترويجا لكلامه ، وكان ميلاده على رأس أربعة عشر شهرا من الهجرة ، وهو أول مولود من الأنصار ، وقيل : ولد بعد سنة أو أقل من سنة ، وقيل : ولد قبل وفاة النبي -عليه السلام - بثمان سنين ، والأول أصح .

                                                فإذا كان الأمر كذلك يكون مراد الطحاوي من قوله : وليس فيه دليل على أنه كان حينئذ صغيرا ، يعني قبل بلوغه سن التمييز وهو خمس سنين أو سبع سنين ، ويكون المراد من قوله : "ولعله قد كان كبيرا " يعني بعد بلوغه سن التمييز ، ولا يشترط

                                                [ ص: 349 ] البلوغ في صحة قبض الهبة ، فيجوز قبض الصبي العاقل ما وهب له ، لأن قبض الهبة من التصرفات النافعة المحضة ، فيملكه الصبي العاقل كما يملك وليه ، وكذا الصبية إذا عقلت جاز قبضها لما قلنا .

                                                فإذا كان الأمر كذلك يكون معنى كلامه : "ولعله قد كان كبيرا " يعني صبيا عاقلا أهلا للقبض ، ولكنه لم يكن قبضه ، فلذلك أمر والده بالرجوع لعدم تمام الهبة ، لأنها لا تتم إلا بالقبض .

                                                الوجه الثاني : بطريق المنع ; وهو أن يقال : لا نسلم دلالة ما رويتم من حديث النعمان على ما ادعيتم ، لأنه قد روي على وجوه مختلفة : منها الوجه المذكور ، ومنها ما أشار إليه بقوله : "وقد روي أيضا على غير المعنى الذي في الحديث الأول " .

                                                وبينه بتخريجه بإسناد صحيح عن نصر بن مرزوق ، عن الخصيب -بفتح الخاء المعجمة وكسر الصاد المهملة - بن ناصح الحارثي ، عن وهيب بن خالد البصري ، عن داود بن أبي هند دينار البصري ، عن عامر الشعبي .

                                                وأخرجه مسلم : ثنا محمد بن مثنى ، قال : ثنا عبد الوهاب وعبد الأعلى (ح).

                                                وثنا إسحاق بن إبراهيم ويعقوب الدورقي جميعا عن ابن علية -واللفظ ليعقوب - قال : ثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن النعمان بن بشير قال : انطلق بي [أبي] يحملني إلى رسول الله -عليه السلام - فقال : يا رسول الله اشهد أني قد نحلت النعمان كذا وكذا من مالي ، فقال : أكل بنيك نحلت مثل ما نحلت للنعمان ، قال : لا ، قال : فأشهد على هذا غيري ، ثم قال : أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء ؟ قال بلى ، قال : فلا إذا " .

                                                قوله : "فهذا " أي هذا الوجه في هذا الحديث "خلاف ما في الحديث الأول " وبين وجه المخالفة بقوله : "لأن هذا القول " يعني قوله -عليه السلام - : "أشهد على

                                                [ ص: 350 ] هذا غيري " لا يدل على فساد العقد الذي صدر عن بشير للنعمان - رضي الله عنهما - ، وبين ذلك من وجهين :

                                                الأول : أن النبي -عليه السلام - قد كان يتوقى الشهادة أي يتجنبها على شيء له إن شهد عليه ، وذلك لغلبة ورعه وجلالة قدره ; لأن تحمل الشهادة أمر عظيم لأجل الأداء ، وكذلك غير النبي -عليه السلام - مثله في هذه القضية ; لأن الشهادة ليست من الأمور اللازمة على الشخص ; لأن الشاهد مخير في تحملها ، فله أن يتحمل وله أن لا يتحمل .

                                                الوجه الثاني : أن يكون إنما كان أمره بإشهاد غيره بقوله : "أشهد على هذا غيري " لأنه إمام ، وليس من شأن الإمام أن يشهد ، وإنما من شأنه أن يحكم ، وقد طعن ابن حزم ها هنا هذا الكلام بقوله : "بل الإمام يشهد " لأنه أحد المسلمين المخاطبين بأن لا يأبوا إذا دعوا ، وبقوله تعالى : كونوا قوامين بالقسط شهداء لله الآية ، فهذا أمر للأئمة بلا شك ، والعجب من هذا القائل ومن قوله ومذهبه أن الإمام إذا شهد عند حاكم من حكامه جازت شهادته ، فلو لم يكن من شأنه أن يشهد لما جازت شهادته .

                                                قلت : هذا كلام صادر من يبس دماغ ، من غير روية ولا فكر ، لأن مراده من مقولة : "والإمام ليس من شأنه أن يشهد " أي : ما دام في صدد الحكم ، فإنه ليس له حينئذ أن يشهد لأحد ولا عليه ، وإنما له أن يسمع الدعوى والشهادة ويحكم بينهم ، وأما إذا أدى عند حاكم آخر فله ذلك ، سواء كان في حال انتصابه للحكم أو بعده .

                                                وأما الآية التي استشهد بها فلا تدل على مدعاه ; لأنها ليست واردة في باب الشهادة في أمور الناس والله أعلم .

                                                قوله : "وفي قوله : أشهد على هذا غيري دليل صحة العقد " أراد بهذا الرد على أهل المقالة الأولى في قولهم : الرجل إذا نحل بعض بنيه دون بعض أن ذلك باطل ، ودلالة هذا القول على صحة العقد ظاهرة إذ لو كان هذا الفعل باطلا لقال قولا دالا عليه .

                                                [ ص: 351 ] هو أكد كلامه بما أخرجه بإسناد صحيح عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن آدم بن أبي إياس شيخ البخاري ، عن ورقاء بن عمر اليشكري الكوفي ، عن المغيرة بن مقسم الضبي ، عن عامر الشعبي ، عن النعمان - رضي الله عنه - .

                                                وأخرجه الطبراني في "معجمه " بأتم منه : ثنا يوسف بن يعقوب القاضي ، ثنا أبو الربيع الزهراني (ح).

                                                وحدثنا الحسن بن إسحاق التستري ، نا عثمان بن أبي شيبة ، قالا : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي قال : "سمعت النعمان بن بشير على منبرنا هذا يقول : طلبت عمرة بنت رواحة إلى بشير بن سعد أن ينحلني نحلا من ماله فأبى عليها ، ثم بدا له بعد حول أو حولين أن ينحلنيه ، فقال لها : إن الذي سألت لابني كنت منعته وقد بدا لي أن أنحله إياه ، وإنها قالت : لا أرضى حتى تأخذه بيده فتنطلق به إلى النبي -عليه السلام - فتشهده ، فأخذ بيدي فانطلق بي إلى النبي -عليه السلام - فقال : يا نبي الله ، إن عمرة بنت رواحة طلبت إلى أن أنحل ابني هذا نحلا ، وإني كنت أبيت عليها ، ثم بدا لي أن أنحله إياه ، وإنها قالت : لا أرضى حتى تأخذه بيده فتنطلق به إلى النبي -عليه السلام - فتشهده ، فقال : هل لك معه ولد غيره ؟ قال : نعم ، قال : فهل آتيت كل واحد منهم ما آتيت هذا ؟ قال : لا ، قال : فإني لا أشهد على هذا ; هذا جور ، أشهد على هذا غيري ، اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف " .

                                                قوله : "فكان المقصود إليه " أي الذي قصد إليه في هذا الحديث الأمر بالتسوية بينهم -أي بين الأولاد - في العطية ليستووا جميعا في البر والإحسان وليس فيه شيء يدل على فساد العقد المذكور الذي عقد على التفضيل أي تفضيل بعضهم على بعض .




                                                الخدمات العلمية