الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فأما قصة كعب وصاحبيه في

أخبرنا هبة الله بن محمد بن الحصين ، قال: أخبرنا ابن المذهب ، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي ، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال: حدثني أبي ، قال: أخبرنا يعقوب بن إبراهيم ، قال: أخبرنا ابن أخي الزهري محمد بن عبد الله ، عن عمه محمد بن مسلم الزهري ، قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله [بن كعب بن مالك ، أن عبد الله بن كعب] بن مالك ، وكان قائد كعب من بنيه حين عمي ، قال:

سمعت كعب بن مالك يحدث بحديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فقال كعب بن مالك: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحد تخلف عنها لأنه إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين توافقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أشهر في الناس منها وأذكر ، وكان من خبري [حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك لأني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني] حين تخلفت عنه في تلك الغزاة ، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزاة يغزوها إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزاة ، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد ، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا ، واستقبل عدوا كثيرا فجلى للمسلمين أمره ليتأهبوا أهبة عدوهم ، فأخبرهم بوجهه الذي يريد ، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ ، يريد الديوان ، فقال كعب: فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل ، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظل ، وأما النهار أصغر ، فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه ، وطفقت أغدو لكي أتجهز معه فأرجع ولم أقض شيئا ، فأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت ، فلم يزل كذلك يتمادى بي حتى شمر بالناس الجد ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون [ ص: 367 ] معه ، ولم أقض من جهازي شيئا ، فقلت: الجهاز بعد يوم أو يومين ثم ألحقهم ، فغدوت بعد ما فصلوا لأتجهز ، فرجعت ولم أقض شيئا من جهازي ، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا [من جهازي] ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارض الغزو ، فهممت أن أرتحل فأدركهم ، وليت أني فعلت ، ثم لم يقدر ذلك لي ، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، [فطفت فيهم] يحزنني أن لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذره الله ، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك ، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: "ما فعل كعب بن مالك" ، قال رجل من بني سلمة:

حبسه يا رسول الله برداه والنظر في عطفيه ، فقال له معاذ بن جبل: بئسما قلت ، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فقال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي فطفقت أتفكر الكذب وأقول بماذا أخرج من سخطه ، غدا أستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي ، فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل ، وعرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا فأجمعت صدقه ، وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس ، فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى حتى جئت ، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى حتى جئت ، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال لي: "تعال" ، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، فقال لي: "ما خلفك؟ ألم تكن قد استمر ظهرك؟" . قال: فقلت: يا رسول الله ، إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني أخرج من سخطه بعذر ، ولقد أعطيت جدلا ولكنه والله لقد علمت لئن حدثتك [اليوم] بكذب ترضى به عني ليوشكن الله تبارك وتعالى يسخطك علي ، ولئن حدثتك اليوم بصدق تجد علي فيه ، إني لأرجو قرة عيني عفوا من الله تعالى ، والله ما كان لي عذر ، والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي الله تبارك وتعالى فيك" . [ ص: 368 ]

فقمت وبادرت رجالا من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون ، لقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك ، ثم قال: والله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي . [قال] : ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم؛ لقيه معك رجلان قالا ما قلت ، فقيل لهما مثل ما قيل لك . قال: فقلت لهما: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العامري ، وهلال بن أمية الواقفي ، قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فقلت: لي فيهما أسوة ، قال: فمضيت حين ذكروهما لي ، قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس ، قال: وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض ، فما هي بالأرض التي كنت أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ، فأما صاحباي فاستكنا وقعدا في بيوتهما يبكيان ، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم ، فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق ولا يكلمني أحد ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه بعد الصلاة فأسلم فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي ، فإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا أطال على ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه ، فو الله ما رد علي السلام ، فقلت له: يا أبا قتادة ، أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت ، قال: فعدت فناشدته فسكت ، فعدت فناشدته ، فقال: الله ورسوله أعلم . ففاضت عيناي ونزلت حتى تسورت الحائط .

فبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا بنبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلني على كعب بن مالك . قال: فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاء ، فدفع إلي كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا ، فإذا فيه: أما بعد ، فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك .

قال: فقلت حين قرأتها: وهذا أيضا من البلاء . قال: فتيممت بها التنور فسجرته بها ، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني ، فقال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك . قال: فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: بل [ ص: 369 ]

اعتزلها فلا تقربها . قال: وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك . قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر .

قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله إن هلالا شيخ ضائع ليس له خادم ، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: "لا ولكن لا يقربنك" قالت: فإنه والله ما به حركة إلى شيء ، والله ما يزال يبكي من لدن أن كان من أمرك ما كان إلى يومه هذا .

قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك؛ فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه ، قال: فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما أدري ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته وأنا رجل شاب .

قال: فلبثنا بعد ذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا . قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله تبارك وتعالى منا قد ضاقت علي نفسي وضاقت الأرض بما رحبت ، سمعت صارخا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر ، قال:

فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج ، وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله عز وجل علينا حين صلى صلاة الفجر ، فذهب الناس يبشروننا ، وذهب قبل صاحبي يبشرون ، وركض إلي رجل راكب فرسا ، وسعى ساع من أسلم وأوفى الجبل ، فكان الصوت أسرع من الفرس ، فلما جاءني الذي سمعت صوته [يبشرني] نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشارته ، ووالله ما أملك غيرهما يومئذ ، فاستعرت ثوبين ، فلبستهما فانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة يقولون يهنك توبة الله عليك ، حتى دخلت المسجد ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد حوله الناس ، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني ، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره .

قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة . قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال وهو يبرق وجهه من السرور: "أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك" قال: قلت:

أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: "لا بل من عند الله" . قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر حتى يعرف ذلك منه . [ ص: 370 ]

قال: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله ، إن من توبتي أن أتخلع من مالي صدقة إلى الله تعالى ، وإلى رسوله ، قال [رسول الله صلى الله عليه وسلم] : "أمسك بعض مالك فهو خير لك" . قال: فقلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر ، فقلت: يا رسول الله إنما نجاني الله تعالى بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت . قال: فو الله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تبارك وتعالى ، والله ما تعمدت كذبا منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى يومي هذا ، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي .

قال: وأنزل الله تبارك وتعالى: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين . قال كعب: فو الله ما أنعم الله تبارك وتعالى علي من نعمة قط بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه [حين كذبوه] ، فإن الله تبارك وتعالى قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما يقال لأحد ، فقال الله تعالى: سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين .

قال: وكنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا فبايعهم واستغفر لهم فأرجأ رسول الله أمرنا حتى قضى الله [تعالى فيه] ، فبذلك قال الله تعالى: وعلى الثلاثة الذين خلفوا وليس تخليفه إيانا ، وإرجاؤه أمرنا الذي ذكر مما خلفنا بتخلفنا عن الغزو ، وإنما هو عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه
. [ ص: 371 ]

قال مؤلف الكتاب: أخرجاه في الصحيحين .

وقوله: "تفارض الغزو" ، أي: تقدم وتباعد ، وربما قرأه من لا يعرف ، فقال:

"العدو" وأطل بالطاء ومعناه دنا ، وقوله: "رجلين شهدا بدرا" ، وهم من الزهري ، فإنهما لم يشهدا بدرا

التالي السابق


الخدمات العلمية