الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ويتطيب لإحرامه إن أحب قبل أن يحرم " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح ، أن يتطيب لإحرامه بما لا يبقى أثره ، كالبخور وماء الورد فجائز ، وهو ظاهر قول الجماعة ، فأما أن يتطيب لإحرامه بما يبقى أثره بعد إحرامه ، كالمسك والغالية ، فمذهب الشافعي أنه جائز وليس محرم ولا مكروه ، وبه قال من الصحابة سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عباس ، والحسن بن علي ، وعبد الله بن الزبير ، وعائشة ، ومن التابعين عروة بن الزبير ، والقاسم بن محمد ، وعمر بن عبد العزيز ، وخارجة بن زيد بن ثابت ، ومن الفقهاء أبو حنيفة وأبو يوسف .

                                                                                                                                            [ ص: 79 ] وقال مالك : يمنع من الطيب ، فإن تطيب أمر بغسله ، فإن لم يغسله حتى أحرم والطيب عليه لم يقبل وبتحريمه في الصحابة قال عمرو ابن عمر ، وفي التابعين الحسن ، وابن سيرين ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وفي الفقهاء محمد بن الحسن ، استدلالا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن المحرم فقال : " أشعث أغبر " فإذا كانت هذه صفة المحرم وجب أن يمتنع من الطيب : لأنه يزيل هذه الصفة : وروي أن أعرابيا قال : " يا رسول الله أحرمت وعلي جبة مضمخة بالخلوق ، فقال : انزع الجبة ، واغسل الصفرة " . فكان أمره بغسله دليلا على تحريم استدامته . وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى معاوية محرما ، وعليه طيب فأنكر عليه ، وقال : من طيبك ، فقال : أم حبيبة ، رضي الله عنها ، فقال : عزمت عليك لترجعن إليها لتغسله عنك كما طيبتك .

                                                                                                                                            وروى بشر بن يسار قال : لما أحرمنا ، وجد عمر ريح طيب ، فقال : ممن هذا الريح ؟ فقال البراء بن عازب : مني يا أمير المؤمنين ، فقال : قد علمت أن امرأتك عطرتك أو عطارة ، إنما الحاج الأذفر الأغبر ، ولأنه معنى يترفه به المحرم ، فوجب إذا منع الإحرام من ابتدائه ، أن يمنع من استدامته ، كاللباس ولأن المحرم إنما يمنع من الطيب : لأنه يدعو إلى الجماع ، وهذا موجود في استدامته كوجوده في ابتدائه ، والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه ، رواية القاسم بن محمد في عائشة أنها قالت : طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي في حجة الوداع للحل والإحرام .

                                                                                                                                            وروت عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت : كنا إذا سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة نضمخ جباهنا بالمسك ، فكنا إذا عرقنا سال على وجوهنا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلينا ونحن محرمات ، فلا ينهانا .

                                                                                                                                            وروى الأسود عن عائشة أنها قالت : رأيت وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث من إحرامه ولأنه معنى يراد للبقاء والاستقامة ، فوجب أن لا يمنع الإحرام من استدامته كالنكاح .

                                                                                                                                            [ ص: 80 ] فأما الجواب على قوله : " المحرم أشعث أغبر " فهو أن تطيبه قبل إحرامه لا يخرجه من أن يكون أشعث أغبر على أن الشعث إنما يزول بالغسل والتنظيف . والمحرم غير ممنوع منه لقوله صلى الله عليه وسلم : " المؤمن نظيف " .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن حديث الأعرابي ، فالأمر إنما كان نزع اللباس وغسل أثر التزعفر عنه ، وذلك غير مباح . لرواية أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم ، نهى الرجال عن التزعفر " . وليس فيه دلالة على المنع من التطيب ، ألا تراه لم يأمره بغسل الطيب عن جسده .

                                                                                                                                            وأما حديث عمر وإنكاره على معاوية والبراء ، فإنما ذلك على طريق الندب ، ألا تراه قال حين راجعه معاوية قال : قد علمت أنه يجوز وإنما أنتم صحابة وقدوة ، فخشيت أن يراكم الجاهل فيقتدي بكم ، وهو لا يعلم أن طيبكم قبل الإحرام أو بعده ، على أن عمر صحابي ، وقد خالفه غيره . حتى روى الحسن بن زيد عن أبيه قال : رأيت ابن عباس وإن على رأسه ، مثل الرب من الغالية : فلم يكن إنكار عمر مع خلاف غيره من الصحابة حجة .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على اللباس : فالمعنى فيه أنه لا يستعمل على وجه الإتلاف ، وإنما يلبس لينزع ، فكانت الاستدامة فيه كالابتداء . والطيب يستعمل للإتلاف فلم تكن الاستدامة كالابتداء . وأما قولهم : إنه يدعو إلى الجماع ، فوجب أن يمنع الإحرام من استدامته . فباطل بالنكاح ، لأنه يدعو إلى الجماع ، ولا يمنع الإحرام من استدامته . فإذا ثبت أنه غير مكروه فقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه مستحب ، اقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                            والثاني : وهو أشبه بمذهب الشافعي ، أنه مباح لأنه فعله ، ولم يأمر به .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية