الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 272 ] فصل

وإذا تبين أن الكتاب والميزان منزلان، فلا يجوز أن يناقض الكتاب بتناقض الميزان، ولا يتناقض الكتاب والميزان، فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة لا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصحيح والقياس الصحيح، وإنما يكون التناقض بين الحق الصحيح والباطل الذي ليس بصحيح، فأما الصحيح الذي كله حق فلا يتناقض، بل يصدق بعضه بعضا. وقد بسطنا هذا المعنى في مواضع .

والمقصود هنا أن نقول: النصوص محيطة بجميع أحكام العباد، فقد بين الله تعالى بكتابه وسنة رسوله جميع ما أمر الله به وجميع ما نهى عنه، وجميع ما أحله وجميع ما حرمه، وبهذا أكمل الدين، حيث قال: اليوم أكملت لكم دينكم . ولكن قد يقصر فهم كثير من الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص، والناس [ ص: 273 ] متفاوتون في الأفهام، ولذلك قال تعالى: ففهمناها سليمان ، ولو كان الفهم متماثلا لما خص به. وكذلك في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القضاء إلى أبي موسى الأشعري: "الفهم الفهم فيما أدلي إليك" .

وفي الحديث الصحيح عن علي رضي الله عنه: "إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه". وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: وكان أبو بكر رضي الله عنه أعلمنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي الصحيح [ ص: 274 ] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لابن عباس رضي الله عنه فقال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".

لكن الناس صاروا هنا ثلاثة أقسام :

قوم من مثبتة القياس قالوا: إن النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث، وغلا منهم من قال: ولا بعشر معشار الحوادث، وقال بعضهم: إن النصوص متناهية، وحوادث العباد غير متناهية، وإحاطة المتناهي بغير المتناهي ممتنع .

وهذا خطأ، لأن ما يتناهى لا يمتنع أن يجعل أنواعا، [ ص: 275 ] فيحكم لكل نوع منه بحكيم، والأفراد التي لا تتناهى تدخل تحت تلك الأنواع. هذا إن قدر وجود ذلك، مع أن أنواع الأفعال بل والأعراض كلها متناهية، ولو قدر أنها لا تتناهى فأفعال العباد الموجودة إلى يوم القيامة متناهية. وهذا كما يجعل الأقارب نوعين: نوعا مباحا، وهن بنات العم والعمة وبنات الخال والخالة، وما سوى ذلك حرام. وكذلك يجعل ما ينقض الوضوء محصورا، وما سوى ذلك لا ينقض الوضوء. وكذلك ما يفسد الصوم محصورا، وما سوى ذلك لا يفسده، وأمثال ذلك.

وإذا كان أهل المذاهب جعلوا لهم قواعد يضبطون بها ما يحل ويحرم، فالله ورسوله أقدر على ذلك، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت بجوامع الكلم"، فهو يأتي بالكلمة الجامعة، وهي قاعدة عامة وقضية كلية تجمع أنواعا وأشخاصا، كقوله لما سئل عن أنواع الأشربة كالبتع والمزر، وكان قد أوتي جوامع [ ص: 276 ] الكلم، فقال: "كل مسكر حرام " .

والكتاب والسنة ملآن من هذا، كقوله تعالى: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ، وقوله تعالى: قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ، وقوله تعالى: وجزاء سيئة سيئة مثلها ، إلى غير ذلك من النصوص.

التالي السابق


الخدمات العلمية