الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 341 ] باب ما يحل للمحرم قتله

                                                                                                                                            ( قال الشافعي ) رضي الله عنه : " وللمحرم أن يقتل الحية والعقرب والفأرة والحدأة والغراب والكلب العقور وما أشبه الكلب العقور مثل السبع والنمر والفهد والذئب ، صغار ذلك وكباره سواء ، وليس في الرخم والخنافس والقردان والحلم وما لا يؤكل لحمه جزاء ؛ لأن هذا ليس من الصيد ، وقال الله جل وعز : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما فدل على أن الصيد الذي حرم عليهم ما كان لهم قبل الإحرام حلالا ؛ لأنه لا يشبه أن يحرم في الإحرام خاصة إلا ما كان مباحا قبله " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : قد ذكرنا أن وحشي الحيوان ضربان : مأكول ، وغير مأكول .

                                                                                                                                            فالمأكول قد مضى حكمه في تحريم قتله ، ووجوب جزائه ، وغير المأكول على ثلاثة أضرب :

                                                                                                                                            ضرب لا جزاء في قتله إجماعا ، وذلك الهوام وحشرات الأرض ، فالهوام كالحية والعقرب ، والزنبور ، والحشرات كالدود والخنافس والجعول .

                                                                                                                                            وضرب فيه الجزاء وهو المتولد بين مأكول وغير مأكول ، كالسمع وهو المتولد بين الضبع والذئب ، والمختم وهو المتولد بين الحبارى والغراب ، وكالمتولد بين حمار وحش ، وحمار أهلي ، فهذا غير مأكول ، تغليبا لحكم الحظر ، وفيه الجزاء تغليبا لحكم الجزاء . وضرب مختلف فيه وهو سباع البهائم ، وجوارح الطير ، فذهب الشافعي إلى أن قتلها مباح ، ولا جزاء فيه ، وقال أبو حنيفة : الجزاء في قتلها واجب ، إلا الكلب والذئب ، وقال في السمع إن كانت قيمته مثل قيمة الشاة أو أقل ، ففيه قيمته ، وإن كانت قيمته أكثر من قيمة الشاة ، فليس عليه أكثر من قيمة الشاة : وقال مالك : ما كان من سباع البهائم وجوارح الطير كبارا فيها عدوى ففيها الجزاء ، وما كان منها صغارا ليس فيها عدوى فلا جزاء عليها . واستدلوا على وجوب الجزاء بقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم [ المائدة : 95 ] ، فأوجب الجزاء في الصيد ، والسباع من جملة الصيد : لأنهم يقولون : فلان صار سبعا ، كما يقولون : صار ظبيا ، قالوا : ولأنه حبس من الصيد الممتنع الذي لا تعم به البلوى فجاز أن يجب الجزاء [ ص: 342 ] بقتله كالضبع ، قالوا : ولأن ما حل قتله في حال الإحلال جاز أن يحرم قتله في حال الإحرام كسائر الصيد ، قالوا : ولأن الجزاء غير مقصور على ما يؤكل لحمه بل يجب فيما يؤكل لحمه ولا يؤكل لحمه كالسمع المتولد بين الذئب والضبع وكالمتولد بين الحمار الوحشي والحمار الأهلي .

                                                                                                                                            ودليلنا رواية الشافعي عن سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : خمس من الدواب لا جناح على من قتلهن في الحل والحرم : الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور وفيه دليلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه نص على قتل ما يقل ضرره : لينبه على جواز قتل ما يكثر ضرره فنص على الغراب والحدأة : لينبه على العقاب والرخمة ، ونص على الفأرة ، لينبه على حشرات الأرض ، وعلى العقرب : لينبه على الحية ، وعلى الكلب العقور : لينبه على السبع والفهد وما في معناه ، وإذا أفاد النص دليلا وتنبيها كان حكم التنبيه مسقطا لدليل اللفظ ، كقوله تعالى : فلا تقل لهما أف [ الإسراء : 22 ] ، ففيه تنبيه على تحريم الضرب ، ودليل لفظه يقتضي جواز الضرب ، فقضى بتنبيهه على دليله .

                                                                                                                                            والثاني : أنه أباح قتل الكلب العقور ، واسم الكلب يقع على السبع لغة وشرعا :

                                                                                                                                            أما اللغة : فلأنه مشتق من التكلب وهو العدوى والضرارة وهذا موجود في السبع .

                                                                                                                                            وأما الشرع فما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي لهب فقال : اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ، فأكله السبع في طريق الشام وروى أبو داود عن أحمد بن حنبل عن هشيم عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عما يحل للحرم قتله فقال : الحية والعقرب والسبعة والفويسقة والحدأة والغراب والكلب العقور والسبع العادي ، وهذا نص في إباحة قتل السبع ودليل على سقوط الجزاء فيه .

                                                                                                                                            فإن قيل : إنما أباح قتله على صفة وهو أن يكون فيه عدوى ، وقتل ذلك مباح ، قيل السباع كلها موصوفة بهذه الصفة ، وإن لم يوجد فيها عدوى ، كما يوصف السيف بأنه قاطع وإن لم يوجد منه القطع ، والنار بأنها محرقة وإن لم يوجد منها الإحراق : ولأنه متولد مما لا يؤكل لحم شيء من جنسه فوجب أن لا يجب الجزاء في قتله كالذئب .

                                                                                                                                            [ ص: 343 ] فإن قيل : يبطل بقتل القمل ، قيل : القمل لا يجب بقتله الجزاء ، وإنما يجب لإزالة الأذى من رأسه : ألا ترى أنه لا يلزمه الجزاء إذا قتله من على بدنه ، وإنما يلزمه إذا قتله على رأسه : ولأن ما يوجب الجزاء من الصيد المقتول إنما يوجب المثل أو القيمة الكاملة ، فلما كان قتل السبع غير موجب للمثل ولا للقيمة الكاملة علم أنه غير مضمون .

                                                                                                                                            فإن شئت حررت ذلك قياسا فقلت : لأن كل ما لم يضمن بالمثل ولا بكمال القيمة لم يكن مضمونا بالجزاء كالذئب .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن الآية فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن اسم الصيد لا يقع على السبع : لأن الصيد ما أحله الله تعالى من البر ، وليس السبع مما أحله الله تعالى من البر ، فلم يكن من جملة الصيد .

                                                                                                                                            والثاني : أن الصيد ما وجب فيه المثل عندنا أو القيمة عندهم ، والسبع لا يجب فيه المثل ولا القيمة الكاملة فلم تكن من الصيد ، وأما قياسهم على الضبع فالمعنى فيه : أنه صيد مأكول ، فليس كذلك السبع .

                                                                                                                                            وأما قولهم : إن الجزاء غير مقصور على ما يؤكل لحمه كالسمع المتولد بين الضبع والذئب ، فالمعنى فيه أنه متولد ما بين مأكول وغير مأكول ، فغلب حكم التحريم ، وليس كذلك السبع ، فأما مالك فإنه فرق بين صغار ذلك وكباره .

                                                                                                                                            وهذا غير صحيح : لأن ما يحرم بالإحرام ، ويضمن بالجزاء ، يستوي حكم صغاره وكباره فكذلك ما يستباح مع الإحرام ، وسقط فيه الجزاء يجب أن يستوي حكم صغاره وكباره ، كالحشرات ، فإذا ثبت سقوط الجزاء في ذلك كله في الحرم والإحرام ، فما كان منه مؤذ لم يحرم قتله ، وما لم يكن مؤذيا ففي تحريم قتله وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يحرم قتله لضعف حرمته .

                                                                                                                                            والثاني : وهو قول أبي إسحاق المروزي : قتله حرام : لقوله صلى الله عليه وسلم : في كل ذات كبد حرى أجر .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية