الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المبحث الثاني

        شجرة القرائن السياقية

        نسعى في هذا المبحث إلى حصر القرائن السياقية وضبطها بالاعتبار النوعي، وإعادة رسم شجرتها، وفق ضوابط منطقية واضحة في التجنيس والتفصيل والتنويع.. سعيا إلى إحكام آليات الاستدلال، مسترشدين بقول الجرجاني (ت471هـ): "حتى تفصل القول وتحصل، وتضع اليد على الخصائص، التي تعرض في نظم الكلم، وتعدها واحدة واحدة، وتسميها شيئا شيئا" [1] ، متجاوزين بذلك ما درجوا عليه من الحكم بتعذر ضبط القرائن تجنيسا وتفصيلا، كما سنرى قريبا، إن شاء الله.

        فنبدأ أولا بتقسيمها إلى لفظية، وغير لفظية؛ نخصص لكل منهما مطلبا نبين فيه تفصيلاتها بالتسمية والتعريف والتمثيل.

        المطلب الأول: القرائن اللفظية؛

        وهـي، الـتي لهـا صيغة قائمة في لفظ معين، وهي: إما "داخلية"، وإما "خارجية". ومفهوم الدخول والخروج هنا نسبي، يرتبط باللفظ المدروس.. كما سيتضح. و"مظنة" القرائن اللفظية عموما من عناصر السياق المتقدمة، هو: "نظم الخطاب" و"نسقه المقالي" [2] . [ ص: 100 ]

        الفقرة الأولى: القرائن اللفظية الداخلية:

        وهي: ما تعلق ببنية المفرد ذاته؛ من الدلالات المعجمية، والصرفية، والإعرابية، والاصطلاحية.. إذا كان اللفظ المدروس مفردا.

        وهي: ما تعلق من تلك الدلالات بمجموع مفرداته أو بالعلاقات النحوية الرابطة بينها إن كان تركيبا.

        وتنقسم القرينة اللفظية الداخلية إلى "وضعية" و"عرفية"، وقد نص الشاطبي (ت790هـ) على ذلك فقال: "وربما أطلق بعض الناس على مثل هذا لفظ "الحقيقة اللغوية" إذا أرادوا "أصل الوضع" ولفظ "الحقيقة العرفية" إذا أرادوا "الوضع الاستعمالي"، والدليل على صحته ما ثبت في أصول العربية من أن للفظ العربي أصالتين؛ أصالة "قياسية"، وأصالة "استعمالية". فللاستعمال هنا أصالة أخرى، غير ما للفظ في أصل الوضع" [3] . وهذا ما نزيد بيانه الآن بحول الله.

        - أولا: القرينة اللفظية الداخلية الوضعية:

        وهي ما تعلق بأصل الوضع المعجمي أو الصرفي أو الإعرابي، وتنقسم تبعا لذلك إلى ثلاثة أنواع؛ وفيها يقول برهان الدين أبو الوفاء (ت841هـ): "واعلم أن الوضع على نوعين؛ وضع جزئي كوضع اللغات؛ ووضع كلي كالأوضاع التصريفية والنحوية"

        [4] . [ ص: 101 ]

        - القرينة المعجمية؛ وهي الدلالة الوضعية المحضة للكلمات المفردة، وما قد تحمله من إيحاءات مختلفة حتى بين المترادفات، ونمثل لذلك بموارد لفظي الحية والثعبان في قصة موسى، فحين كان القصد تعريف موسى بمعجزته، قال تعالى: ( فألقاها فإذا هي حية تسعى ) (طه:20)، ولفظ الحية يطلقه العرب على الصغير من الزواحف السامة، فناسب صغره هذا الموقف، الذي هو لإيناس موسى عليه السلام لا لتخويفه، ولما تغير الموقف في مشهد آخر إلى تخويف فرعون وترهيبه ناسبه لفظ الثعبان، الذي يطلقه العرب على الزاحف السام الكبير المزعج، فقال : ( فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ) (الأعراف:107)، وقل الشيء نفسه في موارد لفظي الأم والوالدة في القرآن الكريم. ولقوة علاقة القرينة المعجمية بالمعنى سماها الآلوسي (ت1270هـ)؛ "قرينة عقلية ظاهرة"، تغليبا لجانب المعنى فيها على جانب اللفظ، فقال في تفسير قول الله : ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة ) (الأنبياء:72) ؛ قال: "فيه قرينة عقلية ظاهرة، لأن النافلة ولد الولد" [5] ، ذلك أن النافلة هي الزيادة على الأصل، وولد الولد زيادة على الأصل، الذي هو ولد الصلب.

        - القرينة الصرفية؛ وهي ما تتضمنه الأوزان والصيغ الصرفية من دلالات، كالمبالغة، والكثرة، والقلة.. ودلالات أزمنة الأفعال، ودلالات صرف الأسماء أو منعها من الصرف. [ ص: 102 ]

        وبدلالة الصرف هذه اعتبر بعض المفسرين واللغويين لفظ حنين من أسماء البلدان المذكرة، أو، التي يستوي فيها التذكير والتأنيث؛ لوقوعه في القرآن مصروفا في قول الله : ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ) (التوبة:25)، فلو كان متمحض التأنيث لمنع من الصرف لاجتماع العلمية والتأنيث، فقيل: ويوم حنين، بدون تنوين.

        - القرينة الإعرابية؛ وهي قسمان، علامات إعرابية، وعلاقات إعرابية. فمن الاستدلال بالعلامات الإعرابية قول الزركشي (ت794هـ) في شروط صحة الحذف: "لا بد أن يكون فيما أبقى دليل على ما ألقى. وتلك الدلالة: مقالية، وحالية. فالمقالية؛ قد تحصل من إعراب اللفظ، وذلك كما إذا كان منصوبا فيعلم أنه لا بد له من ناصب" [6] .

        وأما العلاقات الإعرابية فكالرتبة، والإسناد، والارتباط، والإخراج، والتبعية.. وقد تقدمت نماذج من استدلالهم بالرتبة.

        - ثانيا: القرينة اللفظية الداخلية العرفية:

        وهي الـدلالات الاصطـلاحية للمفردات في استعمال متكلم مميز بالعين أو بالنوع، و"مظنتها" هي "المقام" الخاص للخطاب رغم كونها لفظية، وإلى هذا الاشتراك فيها بين المقالي والمقامي يشير ابن السبكي (ت771هـ)، بقوله: [ ص: 103 ] إنها "من قبيل القرائن اللفظية، متوسطة بين القرائن الملفوظ بها والقرائن الحالية (...) صادرة من المتكلم عند كلامه" [7] ، ونقسمها إلى ثلاثة أنواع، هي؛

        - الأسماء الشرعية؛ وهي دلالة اللفظ في عرف الشرع، كالصلاة والزكاة والوضوء ونحوها.. وهذا هو "الوضع الشرعي" في مصطلح الشاطبي، كما سنبين قريبا.

        - الأسماء العلمية؛ ونعني بها الاصطلاحات الخاصة لأي فن أو مجال معرفي، كاصطلاحات الأصوليين والنحاة والاقتصاديين والأطباء وغيرهم. ومعلوم أنها قد تنقل اللفظ الواحد بين دلالات عدة بحسب اصطلاح كل قوم فيه، ونسوق مثالا لذلك لفظي "الوضع" و"الحمل"؛ اللذين يتكرران كثيرا في هذا البحث، فيمكن أن نقدم للأول ست دلالات متباينة بحسب الاصطلاحات العلمية في حقول معرفية مختلفة، فالوضع عند الأصوليين هو "الدلالة الذاتية" الأصلية للفظ، والوضع عند المناطقة "كالابتداء عند النحاة"، والوضع عند المحدثين هو "اختلاق الحديث" كذبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والوضع في عرف الأطباء هو "الولادة"، والوضع في عرف الاقتصاديين هو "خصم جزء من الدين" أو من قيم السلع، والوضع في عرف الساسة هو "الحالة الراهنة". كما يمكن أن نقدم للثاني ثلاث دلالات متباينة كذلك؛ فالحمل عند الأصوليين هو "تفسير السامع" لقول المتكلم، والحمل عند [ ص: 104 ] المناطقة "كالإخبار عند النحاة أو الإسناد عند البلاغيين" [8] ، والحمل عند الأطباء تخلق الجنين في رحم أمه. وهذا ما يسميه الشاطبي بـ "الوضع في الصناعات الخاصة".

        - الأسماء التداولية؛ ونعني بـهـا الأعـراف الخـاصة بـبـلـدان مـعـيـنـة أو مجتمعات خاصة، وحتى استعمالات أشخاص ما. ونمثل لها بقصر دلالة "الدابة" عند المصريين على الحمار، وإطلاق "العافية" عند المغاربة على النار. ويسمي الشاطبي هذا النوع من الأسماء بـ"الوضع الجمهوري".

        وإلى هذه الأصناف الثلاثة يشير الشاطبي (ت790هـ) بقوله: "إن نسبة الوضع الشرعي إلى مطلق الوضع الاستعمالي العربي، كنسبة الوضع في الصناعات الخاصة، إلى الوضع الجمهوري" [9] .

        الفقرة الثانية: القرائن اللفظية الخارجية:

        وهي كل ما خرج عن الدلالات الذاتية للمفرد، إن كان اللفظ المدروس مفردا؛ مما تعلق بغيره من مفردات الخطاب، الذي يحويه، وهي ما تعلق بالتراكيب الأخرى، إن كان اللفظ المدروس تركيبا. [ ص: 105 ]

        وتنقسم القرينة اللفظية الخارجية إلى قرائن متصلة، وقرائن منفصلة؛ فالمتصلة بالنسبة إلى اللفظ المفرد هي ما كان معه في جملة واحدة، والمنفصلة بالنسبة إليه هي ما كان في جملة أخرى من الخطاب، الذي يحويه.

        أما المتصلة بالنسبة إلى التركيب فهي ما كان معه في خطاب واحد، وأما ما كان في خطاب آخر، فهو: القرينة اللفظية الخارجية المنفصلة.

        ومن النقول، التي ورد فيها ذكر بعض من هذه التفصيلات، قول الزركشي (ت794هـ): "وهـذه القرينة، وإن كانت مـذكورة في سياق ذكر الطلقتين، إلا أنـها جـاءت في آية أخـرى، فـلـهـذا جـعـلـت من قسم المنفصلة" [10] . ومن ذلك أيضـا قـول الآلوسـي: "وكونـه قرينة خارجية لا يضر، إذ لا يلزم في القرينة وجودها في الكلام" [11] .

        وينقسم كل واحد من قسمي القرينة اللفظية الخارجية، بحكم تقدمه على ما يأتي توضيحا لـه أو تأخره عنه، إلى سوابق ولواحق.

        المطلب الثاني: القرائن غير اللفظية:

        وهي كل ما يتأدى به معنى ما مما ليس بلفظ، و"مظنتها" ركن "المقام" و"نسقه".

        وقد تواترت نصوص التراث الإسلامي على الحكم بعدم قابليتها للحصر بالعد ولا بالحد؛ تجنيسا وتفصيلا، كما بينا قبل، وهو ما حاولنا تجاوزه بالتقسيم المنطقي الآتي. [ ص: 106 ]

        ذلك أن القرينة غير اللفظية لا تخلو من أحد أمرين؛ فإما أن تكون "اقتضاء عقل"، وإما أن تكون "شاهد حال". ونسمي الأولى قرينة "عقلية"، ونسمي الثانية قرينة "حالية".

        وقد قرر الدمشقي (ت880هـ) تباين هاتين القرينتين بقوله: "وإن كانت دلالة الحال غير دلالة العقل" [12] ، ونناقش كل واحدة منهما في فقرة خاصة.

        الفقرة الأولى: القرينة العقلية:

        لا يخلو اقتضاء العقل من أن يكون حاصلا بعد التأمل أو دونه، فإن كان الأول فهو: قرينة عقلية "نظرية"، وإن كان الثاني فهو: قرينة عقلية "بديهية".

        ويعرف الآلوسي (ت1270هـ) القرينة العقلية، فيقول: "إنها مركبة من مقدمات علم بالبديهة صحتها، أو علم بالبديهة لزومها مما علم صحته بالبديهة" [13] ، فنقول: إن الأولى هي "البديهية"، وإن الثانية هي "النظرية".

        وعلى "القرينة العقلية" نحمل قول الجويني (ت478هـ): "فأما القرائن الحالية؛ فكـقـول القـائل: رأيت الناس، وأخـذت فـتـوى العلماء. ونحن نعلم أن حـاله لا يـحـتـمـل رؤية الناس أجمعين، ومراجعة جميع العلماء" [14] ، وإن سمـاها قـرائن حـالية، إذ "الحالية" في عرف استعماله هي ما قابل اللفظية مطلقا. [ ص: 107 ]

        الفقرة الثانية: القرينة الحالية:

        وهي محل قول الكرخـي (ت340هـ): "الأصـل أن للحالة من الدلالة كما للمقالة" [15] ، بل نقل الشاطبي والسيوطي عن الزمخشري في كتاب الأحاجي تفضيل الحال على المقال في الدلالة، حيث يقولان: "قال الزمخشري في كتاب الأحاجي (...) دلالة الحال، التي لسانها أنطق من لسان المقال" [16] ، وكذا يقرر الثعالبي والآلوسي: "لسان الحال أنطق من لسان المقال" [17] .

        ولا يخلو شاهد الحال من أن يكون "حدثا" قائما بذاته، أو يكون "عرضا" قائـما في غـيره، فـالأول هـو القرينـة "الحسية"، والثـاني هو القرينة "المعنوية".

        ويشير الشاطبي (ت790هـ) إلى "القرائن الحالية المعنوية" بقوله: "وليس كل حال ينقل، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة أو فهم شيء منه" [18] . [ ص: 108 ]

        ويؤكد الجويني (ت478هـ) على أهمية "قرائن الأحوال" وعلى إطباقهم على اعتبارها، فيقول: "فأما قرائن الأحوال، فلا ينكرها أحد" [19] ، ويقول: "وقرائن الأحوال متقبلة عند الكافة" [20] ، ويقول: "لا يعتقد الوقف مع فرض القرائن الحالية على نهاية الوضوح ذو تحصيل" [21] .

        وتنقسم كل من القرينة "الحسية" والقرينة "المعنوية" باعتبار اقترانهما زمنيا باللفظ المدروس أو تقدمهما أو تأخرهما عنه إلى "سابقة" و"لاحقة" و"مقارنة".

        التالي السابق


        الخدمات العلمية