الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المبحث الأول

        تحرير قصد المتكلم عند الاستعمال

        أوردنا قبل عدة نقول للنحاة تتضمن بعض تقعيداتهم في استصحاب أصل الكلام ترتيبا وإظهارا وإتماما.. عند "خوف اللبس"، وإجازتهم للعدول عن تلك الأصول تشويشا وإضمارا وحذفا.. عند "أمن اللبس". وما ذلك إلا تجل من تجليات اهتمامهم بسبل تحرير قصد المتكلم عند الاستعمال دفعا للبس عن السامعين.

        لكن التجلي الأكبر هو ما قعده علماء المعاني من مقاصد بلاغية لأي عدول عن الأصل، ونضرب لذلك مثلا بسيطا بتغير رتبة المفعول، فلو عدلنا مثلا عن أصل الجملة: أكرم زيد عمرا، بتوسيط المفعول بين الفعل والفاعل، فقلنا: أكرم عمرا زيد، ناسب ذلك المتردد في فاعل الإكرام أهو زيد أم غيره، وإذا قدمنا المفعول على الفعل والفاعل معا، ناسب ذلك المتردد في مفعول الإكرام أهو عمرو أم غيره.

        وفي هذا المعنى يقول الجرجاني (ت471هـ): "لا تكون من معرفتها في شيء حتى تفصل القول وتحصل، وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم، وتعدها واحدة واحدة، وتسميها شيئا شيئا" [1] . [ ص: 138 ]

        ويقرر أن هذه المعاني الإضافية والمقاصد البيانية هي ما: "يوجب اعتبار الأجزاء بعضها ببعض، حتى يكون لوضع كل حيث وضع علة تقتضي كونه هناك، وحتى لو وضع في مكان غيره لم يصلح" [2] .

        ويزيد الجرجاني من إيضاح ما يرمي إليه فيقول: "واعلم أنا لم نوجب المزية من أجل العلم بأنفس الفروق والوجوه فنستند إلى اللغة، ولكنا أوجبناها للعلم بمواضعها، وما ينبغي أن يصنع فيها. فليس الفضل للعلم بأن الواو للجمع، والفاء للتعقيب بغير تراخ، وثم له بشرط التراخي، وإن لكذا، وإذا لكذا.. ولكن لأن يتأتى لك إذا نظمت شعرا وألفت رسالة أن تحسن التخير، وأن تعرف لكل من ذلك موضعه".

        ويسمي الجرجاني في هذا النص القرينة علة؛ لأنه لا ينظر إليها -هنا- من حيث هي أمر قائم يقع عليه النظر، فيستدل به على ما وراءه. بل ينظر إليها من باب التنظير للبناء في المستقبل؛ بحيث ينطلق من كون الموجود المعلوم -حينها- هو المعنى القائم في الذهن، ويريد أن يقول لمن يقوم ذلك المعنى في ذهنه فيسعى إلى صياغته في خطاب معين: "انتبه إلى أوضاع الكلمات خلال النظم وعلاقاتها، وعلل -انطلاقا من مقصودك- الموضع الذي تختاره لكل كلمة، والرابط الذي تشدها به إلى ما حولها.. لتصبح معالم الطريق واضحة بينة.."؛ حتى إذا اكتمل الخطاب وتلقاه المستمع، أمكنه أن يتتبع تلك [ ص: 139 ] المعالم في الاتجاه العكسي لترتيبها (المنطقي) عند المتكلم.. ويظل يقتفيها بفهمه، وتقوده بتسلسلها.. حتى توصله إلى المعنى الذي انطلق منه المتكلم وأراد كشفه.

        فالأصولي حينما يسمي تلك المعالم قرائن، فلأنه ينظر إليها من موقع السامع المتفهم، واللغوي حينما يسميها عللا، فلأنه ينظر إليها من موقع المتكلم المستعمل.

        وخلاصة القول هي أن كل عدول عن الأصل أو استصحاب له في نظم الكلام من حيث الرتبة والإتمام والإظهار ومقابلاتها ومشاكلاتها.. يجب أن يكون لمقصد بلاغي يراعي المقام "تحصينا للمعنى"، أو يراعي المقال "تحسينا للفظ".

        ولئن كان للغويين قصد بارز إلى مساعدة المتكلم على توصيل مراده إلى السامع دونما لبس، فقد كان لهم قصد كذلك إلى مساعدة السامع على الوصول إلى مقصود المتكلم دونما تريب، كما مر بنا عدة مرات في نصين للجرجاني [3] . [ ص: 140 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية