الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المبحث الثاني

        أسلوب الخطاب

        يقول إمام البلاغيين عبد القاهر الجرجاني (ت471هـ) في تعريف الأسلوب: "والأسلوب: الضرب من النظم، والطريقة فيه" [1] ، ويقول الجوهري (ت393هـ): "الأسلوب بالضم: الفن، يقال أخذ فلان في أساليب من القول؛ أي فنون منه" [2] ، ويقول النسفي (ت468هـ) مبينا أهمية انتقاء أساليب الخطاب والتفنن فيها: "الكلام إذا انتقل من أسلوب إلى أسلوب أدخل في القبول عند السامع، وأحسن تطرية لنشاطه، وأملأ استلذاذا لإصغائه" [3] ، ويبين القرطبي (ت671هـ) تجذر العناية بالأساليب في القرآن الكريم وفي كلام العرب عموما، فيقول: "قال أكثر أهل المعاني: نزل القرآن بلسان العرب، ومن مذاهبهم: التكرار إرادة التأكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز، لأن خروج الخطيب والمتكلم من [ ص: 56 ] شيء إلى شيء أولى من اقتصاره في المقام على شيء واحد" [4] ، فلفظ الشيء والمذهب في هذا النص، إنما هو الأسلوب.

        فالأسلوب إذا؛ كما نفهمه من مجمل نصوص المتقدمين، هو: "الهياكل، التي يبنى عليها الخطاب، والقوالب، التي من خلالها يحمل معان معينة، للتأثير على السامع تأثيرا يخدم مقاصد المتكلم، وما يصاحب ذلك من "مؤثرات غير لفظية" مهما كانت طبيعتها أو وسيلة إدراكها".

        فهو إذن طريقة أداء الخطاب سواء تعلقت بالقوالب، التي يصاغ فيها؛ خـبرا أو إنشاء، كما يشير إليه ابن جزي (ت792هـ) في تعريفه للبلاغة: "وأما البلاغة فهي سياق الكلام على ما يقتضيه الحال والمقام من الإيجاز والإطناب.. ومن التهويل والتعظيم والتحقير.. ومن التصريح والكناية والإشـارة.. وشبـه ذلك، بحيـث يهـز النفوس! ويؤثر في القلوب! ويقود السامع إلى المراد أو يكاد" [5] ، وكما يقول ابن قتيبة (ت276هـ): "فالخطيب من العرب إذا ارتجـل كلاما؛ في نكاح، أو حمالة، أو تحضيض، أو صلح.. [ ص: 57 ] أو مـا أشـبـه ذلك؛ لم يأت به من واد واحـد، بل يفتن؛ فيختـصر تارة إرادة التخفيف، ويطيل تارة إرادة الإفهام، ويكرر تارة إرادة التوكيد.. ويخفي بعض معانيه حتى يغمض على أكثر السامعين، ويكشف بعضها حتى يفهمه بعض الأعجمين.. ويشير إلى الشيء، ويكني عن الشيء.. وتكون عنايته بالكلام على حسب الحال، وقدر الحفل، وكثرة الحشد، وجلالة المقام" [6] .

        وسواء تعلقت بما يرافق الكلام عند الإلقاء مما نسميه "المؤثرات غير اللفظية"، التي يرمي إليها ابن جني (ت392هـ) بقوله: "أنا لا أحسن أن أكلم إنسانا في الظلمة!" [7] ، لأنه يعول على الحركات العضوية والتغيرات العاطفية؛ من إشارات وإيماءات وانفعالات.. يريد أن تبلغ المخاطب القسط الأكبر من خطابه، ولأنه يريد أن يرى تأثير خطابه في المستمع ليعدل على أساس منه إيجـازا أو إطنـابا.. واكتـفاء بالخـبر الابتـدائي مثلا، أو اللجوء إلى الطلبي أو الإنكاري.. فضلا عن حاجته إلى إدراك ما يحف بقول مخاطبه مما أشار إليه الإمام الغزالي (ت505هـ) بقوله:

        "قرائن أحوال، ورموز، وإشارات، وحركات.. من المتكلم، وتغيرات في وجهه (...) كالقرائن، التي يعلم بها خجل الخجل، ووجل الوجل، وجبن [ ص: 58 ] الجبان" [8] ، وذلك ما يشير إليه الكاساني (587هـ)، بقوله: "قيام الإشارة مقام العبارة" [9] .

        وقد اعتنى علماء اللسان، لغويين وأصوليين بهذه "المؤثرات غير اللفظية" فاعتبروها قوالب تؤدى بها المعاني كما تؤدى بالألفاظ سواء بسواء، بما في ذلك طبيعة النطق؛ رقة وخشونة، وارتفاعا وانخفاضا، وإسراعا وتباطؤا، وطلاقة وتلعثما.. وما تعنيه هذه الأحوال ونحوها من معاني التودد، والاستعطاف، والاعتذار، والخجل، والغضب، والرضى، والارتياح، والحزن، والقلق، والسخرية، والتشفي، والتوجع، والتذلل، والتدلل، والتهكم.. فضلا عن المعاني، التي تبدو بديهة كالإخبار والاستفهام والتعجب والأمر..

        وبما فيه مظهر المتكلم، من حيث الهيئة؛ كالإقبال على المخاطب بالوجه، أو تحريفه عنه، أو إيلائه القفا.. وكتصويب النظرات إليه أو غضها عنه.. ومن حيث الانفعالات؛ كالهدوء، والتشنج، والاضطراب، وحركات اليدين؛ قبضا، وبسطا، وتقليبا، وتشبيكا، وإرسالا.. وقسمات الوجه؛ انشراحا، وانقباضا، وعبوسا.. وتغيرات لونه؛ حمرة وصفرة، وشحوبة واغبرارا، [ ص: 59 ] ونضـارة وتـهـللا.. وإشارات الحاجبين؛ تقطـبـا وارتـخـاء.. وتقـلـبـات؛ الحـيرة، والنعسـة، والعبرة، والغمزة في العينين.. وارتسام البسمات واللمزات على الشفتين..

        وفي هذا المعنى يقول الكرخي (ت340هـ): "الأصل أن للحالة من الدلالة كما للمقالة" [10] ، كما نجد الغزالي (ت505هـ) ينكر على من يقلل من شـأن هـذه "المؤثرات غير اللفظية" أو يـجـعلها تابعـة للفـظ، فيقول: "وأما قولـهم ما ليـس بلفـظ فهو تابـع للفظ فهـو فاسـد؛ فمن سلم أن حركة المتكلم وأخلاقه وعاداته وأفعاله وتغير لونه وتقطب وجهه وجبينه وحركة رأسـه وتقـليب عينيه تابع للفـظ؟! بل هنـا أدلة مستقلة يفيد اقتران جملة منها علما ضروريا" [11] .

        ولما كانت هـذه "المؤثرات غير اللفظية" بـهـذا القدر من الأهمية في توصيـل معـنى الخـطاب كانت عنـاية المحـدثين بـها كبيرة جدا، فحرصوا على نقل كثير من المشاعر والانفعالات وما إليها مما يحيط بألفاظ الأحاديث، التي يروونها حرصا على تأدية المعنى كما هو، انسجاما مع قول [ ص: 60 ] النبي صلى الله عليه وسلم : ( نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع ) [12] .

        ومن أمثـلة ذلك قولـهم: رأيت في وجهه الغضب، أو عرفت فيه البشر، أو كان متكئا وجلس، أو ضحك حتى بدت نواجذه، أو بكى حتى بل الثرى... أو غيرها.

        وقد ورد في القرآن من ذلك كثير في سياقات القصص وذكر أحوال أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وغيرها، كما في قوله تعالى: ( جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم ) (نوح:7)، ( ثم ذهب إلى أهله يتمطى ) (القيامة:33)، ( كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة ) (المدثر:50-51)، ( ويوم يعض الظالم على يديه ) (الفرقان:27)، ( فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ) (الأنبياء:97)، ( وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة ) (عبس:38-41).. إلى غير ذلك.

        وبهذه "المؤثرات غير اللفظية" أيضا اعتنى الفقهاء في تحرير فتاويهم والقضاة في إصدار أحكامهم فاختلفت فتوى العالم الواحد في المسألة الواحدة [ ص: 61 ] لشخصين مختلفين، أو لشخص واحد في حالين مختلفين، وأصل ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أجوبته المتنوعة للسائلين: أي الأعمال أفضل؟ رعيا لمقتضيات أحوالهم، كما أجاب ابن عباس، رضي الله عنهما، أحد السائلين: هل للقاتل عمدا توبة ؟ بـ "الإيجاب"؛ لما رأى من حسرته وندمه على ما بدر منه، وأجاب الثاني بـ"السلب"؛ لما أحس فيه من عزم على اقتراف الجرم إذا علم أن له منه توبة.

        ولقد أحسن الشاطبي (ت790هـ) التنبيه على هذه "المؤثرات غير اللفظية" وعلى أثر إهمالها، حين قال: " ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة ; فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه" [13] ، ولقد أحسن بها تعليل أولوية الصحابة، رضوان الله عليهم، بصحة الفهم، فقال:

        "والشاهد يرى ما لا يرى الغائب... وأنهم شاهدوا من أسباب التكاليف وقرائن أحوالها ما لم يشاهد من بعدهم، ونقل قرائن الأحوال على ما هي عليه كالمتعذر; فلابد من القول بأن فهمهم في الشريعة أتم وأحرى بالتقديم" [14] . [ ص: 62 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية