الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المبحث الأول

        المتخاطبان

        ونعني بهما: المتكلم والسامع؛ والمعتبر فيهما هو كل ما له تعلق بـ"إمكان التأثير في المعنى"، الذي اعتبـرناه مـنـاط الـدخـول في مـدلـول السياق، وإنما يكون ذلك من إحدى جهتين؛ هما: "طبيعتهما، وعلاقتهما".

        ونعني بطبيعتهما، طبيعة كل واحد منهما؛ من حيث: سنه، وجنسه، وهيأته، وخلقه، وعادته.. ومن حيث مستواه؛ العلمي، والنفسي، والعقلي، والاجتماعي.. ومن حيث توجهه؛ الديني، والفكري، والسياسي..

        ونعني بعلاقتهما، النسج؛ الاجتماعية، والإدارية، والسياسية، والفكرية.. الرابطة بينهما: كالأبوة، والزوجية، والأستاذية، والجندية، والزمالة، والزبونية..

        وهذا ما قصده الشاطبي في نصه السابق، وهو ما قصده ابن تيمية (ت728هـ) بقوله: "فحال المتكلم والمستمع لا بد من اعتباره في جميع الكلام" [1] ، وقوله: "كل لفظ مقيد مقرون بغيره، ومتكلم قد عرفت عادته، ومستمع قد عرف عادة المتكلم بذلك اللفظ، فهذه القيود لا بد منها في كلام يفهم معناه، فلا يكون اللفظ مطلقا عنها" [2] . [ ص: 65 ]

        ولمزيد من تجلية مكانة المتخاطبين عند الأقدمين في تحديد معنى الخطاب نفرد لكل واحد منهما مطلبا خاصا نستعرض فيه بعضا من أهم ما أوقفنا عليه البحث والتأمل.

        المطلب الأول: المتكلم (حاله وقصده):

        يشترط البلاغيون -كما يقول ابن سنان الخفاجي (ت466هـ)- لتمام فهم الخطاب المعرفة بالمتكلم: "بحسب أحواله؛ من قصده، وإرادته، واعتقاده.. وغير ذلك من الأمور الراجعة إليه حقيقة أو تقديرا" [3] ، ويناصرهم الأصوليون دون تردد.. فهذا ابن القيم (ت751هـ) يقول: "التعويل في الحكم على قصد المتكلم، والألفاظ لم تقصد لنفسها، وإنما هي مقصودة للمعاني والتوصل إلى معرفة المراد" [4] .

        ومن هنا كان تركيز القرآن على العقائد، إذ بها يعرف الله عز وجل ، فيتيسر بذلك معرفة مراده، فيعرف مثلا: "من مقتضى كماله، وكمال أسمائه وصفاته، أنه يمتنع من إرادة ما هو معلوم الفساد، وترك إرادة ما هو متيقن مصلحته، وأنه يستدل على إرادة النظير بإرادة نظيره ومثله وشبهه، وعلى كراهة الشيء [ ص: 66 ] بكراهة مثله ونظيره ومشبهه، فيقطع العارف به وبحكمته وأوصافه على أنه يريد هذا، ويكره هذا، ويحب هذا، ويبغض هذا" [5] .

        وقد أوضح الإمام الغزالي (ت505هـ) رحمه الله، هذا المعنى بأمثلة تقريبية تبين كيف تساعد معرفة حال المتكلم على إدراك قصده، حينما يكون كلامه محتملا لأكثر من معنى فقال: إن المتكلم "إذا قال على المائدة: هات الماء؛ فهم أنه يريد الماء العذب البارد، دون الحار المالح" [6] .

        المطلب الثاني: السامع (حاله ومنزلته من المتكلم):

        يقول ابن قتيبة (ت276هـ): "فالخطيب من العرب إذا ارتجل كلاما؛ في نكاح، أو حمالة، أو تحضيض، أو صلح.. أو ما أشبه ذلك؛ لم يأت به من واد واحد، بل يفتن؛ فيختصر تارة إرادة التخفيف، ويطيل تارة إرادة الإفهام، ويكرر تارة إرادة التوكيد.. ويخفي بعض معانيه حتى يغمض على أكثر السامعين، ويكشف بعضها حتى يفهمه بعض الأعجمين.. ويشير إلى الشيء، ويكني عن الشيء.. وتكون عنايته بالكلام على حسب الحال، وقدر الحفل، وكثرة الحشد، وجلالة المقام" [7] .

        هكذا يكون تصوير مراعاة المقام، واعتبار حال السامع.. فالحشد يغلب عليه اختلاف الأذواق، والقدرات، والمستويات، والاهتمامات.. [ ص: 67 ]

        ولذلك فالخطيب مطالب بالعدل بين المستمعين؛ فإن منهم البليد، الذي يحتاج إلى تبسيط المعاني وتقريبها إلى أدنى الحدود، فإذا لم تراع حاجته كانت الخطبة بالنسبة إليه همهمة وغمغمة ودندنة.. ولفا ودورانا.. وإبراقا وإرعادا.. ولم تبق فيه من أثر؛ غير النكد، والحيرة، وربما الغضب والتشنج..

        ومنهم اللبيب الحاذق الفطن؛ الذي تستهويه الإشارة والكناية، ويستحلي الرمز ويستمرئ التلميح.. ويمج السطحية، ويستهجن البداهة.. فإذا لم يراع الخطيب ذوقه، وآثر عليه سابقه.. كانت الخطبة بالنسبة إليه؛ سمجة غثة سخيفة هزيلة.. بل رأى فيها استخفافا بذكائه، وطعنا في فطنته، وإهانة لمستواه.. فخرج منها متأذيا، ساخطا، متأففا..

        وإن منهم من تقنعه الحجة، ومن تقوده العاطفة، ومن يقهره الاستجداء، ومن يصلحه التوعد، ومن يسحره البيان، ومن يستميله الاهتمام به، ومن يخجله التفطن إليه..

        فإذا أتقن الخطيب إدراك حال مخاطبيه؛ من حيث الأذواق والميول، ومن حيث المستويات العلمية والعقلية والاجتماعية.. وخبر ظروفهم النفسية.. كان أقـدر على إرضـائـهم والتـأثـير فيـهم، وظـل -من فوق منبره- يمد هـؤلاء وهؤلاء من أفانين قوله.. ومن لحظات عينيه، وقسمات وجهه، وإشارات يديه..

        وإذا كان المحلل للخطبة بعد عدة قرون من إلقائها، عالما بما علمه الخطيب يوم ألقاها.. من حال مستمعيه، كان أقدر على تعليل حالات المد [ ص: 68 ] والجزر، التي اعترتها؛ من حيث سبك الألفاظ فيها، ومن حيث تفاوت المسـاحات، التي تشغـلها الأفـكار المثارة إيجازا وإطنابا، ومن حيث تناغم الحجج والمشاعر فيها.. وفهم ما يعتورها من تضييق الدلالات تخصيصا وتقييدا، أو توسيعها إلى أكثر مما يراد منها.. اتكالا على فهم المخاطب، وتعـويلا على إيـحـاءات الـواقع، وخـوفـا من احتـمـال الـورود على الذهن، أو أمنا منه..

        وإذا أدركنا نحن اليوم -على هذا النسق- حال العرب إبان نزول الوحي، كنا أقدر على فهم الكتاب والسنة، وما فيهما من وعد ووعيد، وقصص، وأخلاق، وفقه، وعقيدة..

        ولقد أجاد الشاطبي وأوجز حين قال: "الكلام الواحد يختلف فهمه؛ بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك" [8] . [ ص: 69 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية