الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المبحث الأول

        قرينة السياق عند الأقدمين

        المطلب الأول: علاقة القرينة بالسياق عند الأقدمين:

        إن من سـنة المصـطلحات أن تتطـور باسـتمرار.. تبـدأ عـائمة فضـفاضة، ثم تضيق شيئا فشيئا، وتتضح دلالتها وتتحدد.. ولقد كان الرواد الأوائل من علماء هذه الأمة مجمعين على أن هناك أمرا جوهري الأثر في تحديد المعاني، يعتمدون في دركه على الملكات والأذواق؛ ولا يلجئهم فيه إلى القواعد والضوابط إلا النزاع، ثم يطلقون عليه تسميات متعددة: منها السياق، ومنها القرينة، ومنها النظم، ومنها المقام.. وربما أضافوا بعضها إلى بعض كما مر، وأثناء ذلك قد يضيفون الشيء إلى ما هو أعم منه، وهو الأصل (وهو الغالب كذلك في أقوالهم).. وربما أضافوا الشيء إلى مساويه، أو إلى جزئه.. وهو أمر معهود في اللسان العربي.

        وتبعا لهذه الإطلاقات والإضافات يمكننا أن نصنف تصورهم لعلاقة القرينة بالسياق من خلال ظواهر نصوصهم، إلى أربعة مناح؛ تباينهما، وتطابقهما، واندراجه فيها، واندراجها فيه.

        وسنخصص لكل منحى فقرة نورد فيها بعض النصوص الدالة عليه. [ ص: 88 ]

        الفقرة الأولى: تباين القرينة والسياق:

        من النقول الموهمة للتباين قول الشوكاني (ت1255هـ): "والحق أن دلالة السياق إن قامت مقام القرائن القوية المقتضية لتعيين المراد، كان المخصص هو ما اشتملت عليه من ذلك، وإن لم يكن السياق بهذه المنزلة، ولا أفاد هذا المفاد؛ فليس بمخصص" [1] .

        ومحل الإيهام هو قوله: "دلالة السياق إن قامت مقام القرائن"؛ وكأنهما شيئان متغايران، ولكن هذا الإيهام يرفعه ما بعده، وهو قوله: "ما اشتملت عليه من ذلك"؛ حيث نص على اشتمال السياق على القرائن، وهو الحق.

        وقول الزركشي (ت794هـ): "وهذا يعلم من السياق والقرينة" [2] ، وقول ابن القيم (ت751هـ): "لأن السياق والقرينة بينة تدل على صدقه" [3] ، وقول الآلوسي (ت1270هـ): "وقيل: إن الدال (...) على الوجه الأخير؛ القرينة والمقام، لا نفس الكلام" [4] ، وقوله أيضا: "ولا يخفى أنه يأباه السياق وعدم القرينة عليه" [5] .

        ووجه الإيهام في هذه الأقوال وما شاكلها هو عطف القرينة على السياق، الذي يوحي بتغايرهما، ولكن عطف الجزء على الكل، وعطف الكل على بعض أجزائه لنكت بلاغية أمر معهود في اللسان العربي، والنكتة هنا بينة وهي ما تقدم من كون القرائن هي محل الدلالة في السياق. [ ص: 89 ]

        الفقرة الثانية: تطابق القرينة والسياق:

        ومن أصرح النقول الموهمة له ما نقله الإمام الشوكاني (ت1255هـ) عن ابن دقيق العيد (ت702هـ): "ولا يشتبه عليك التخصيص بالقرائن، بالتخصيص بالسبب (...) فإن التخصيص بالسبب غير مختار (...) بخلاف السياق" [6] ، فعقد المقارنة بين السبب، وبين أمر آخر، سماه في بداية الكلام قرائن، وفي نهايته سياقا؛ فدل ذلك على أن السياق هو القرائن.

        ومثل هذا كثير في نصوصهم، لكنه لا يخرج عما قدمنا من اهتمامهم بالقرائن باعتبارها براهينهم على المعاني، التي يستنبطونها من السياقات المختلفة.

        الفقرة الثالثة: اندراج السياق في القرينة:

        ومن النـقول المـوهمـة له، قـول الزركشي (ت794هـ): "دلالة السياق؛ (...) وهـو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتـكلم" [7] ، وقـول الآلوسي (ت1270هـ): "نعم! يبقى الكلام في القرينة؟! ولعلها السياق" [8] . [ ص: 90 ]

        وقد تمسك بهذا القول بعض المحدثين [9] فجعلوا السياق قرينة من القرائن، وهو ظاهر الفساد؛ إذ كيف يكون السياق مجرد قرينة من القرائن، وهو بهذا المستوى من الشمول، والقرائن جزئيات صغيرة؟!

        الفقرة الرابعة: اندراج القرينة في السياق: [10]

        ومن أصرح النقول الدالة عليه قول الزركشي (ت794هـ): "الاحتمال، الذي دلت عليه القرينة في سياق الكلام" [11] ، وقول الشوكاني (ت1255هـ) المتقدم: "ما اشتملت عليه من ذلك"، يعني ما اشتملت عليه دلالة السياق من القرائن.

        وفي الحقيقة: لا أعتقد أن الأقدمين، من حيث التصور؛ يختلفون في كون القرائن جزئيات من السياق، وأكبر شاهد عندي على ذلك، هو أن هذه الاحتمالات كلها قد تفهم من كلام الواحد منهم، كما يـتضح مما أوردنا من نقول، مما يعني أن ذلك لم يكن عن سابق قصد وتقرير، وإلا كان تناقضا!.. والقول بالتوسع في صحيح اللسان، أولى من القول بالتناقض. [ ص: 91 ]

        المطلب الثاني: أنواع القرينة عند الأقدمين:

        يلاحظ المتأمل لنصوص الأقدمين تعويلا واضحا منهم على الذوق والملكة في استنباط القرائن عموما، كقول ابن القيم (ت751هـ): "والتحاكم في هذا إلى الذوق السليم، والطبع المستقيم" [12] ، وقول الآلوسي (ت1270هـ): "ودائرة التأويل واسعة، والاستحسان مفوض إلى الذوق السليم" [13] ، وقوله: "مدار علم البيان الذوق السليم،، الذي هو أنفع من ذوق التعليم" [14] ، وقول ابن قتيبة (ت276هـ): "والحاكم في ذلك هو الذوق السليم والطبع المستقيم، فقلما ينجع هنالك إلا ذلك" [15] ، وقول عز الدين ابن الأثير (ت630هـ): "ومن هذا النوع ألفاظ يعدل عن استعمالـها من غير دليل يقوم على العدول عنها، ولا يستفتى في ذلك إلا الذوق السليم، وهذا موضع عجيب لا يعلم كنه سره" [16] . [ ص: 92 ]

        بل لا يعدم المتتبع الوقوف على نقول تصرح بقنوطهم من ضبطها تجنيسا وتفصيلا، لاسيما إن تعلق الأمر بشقها غير اللفظي، كقول الجويني (ت478هـ): "أما الأحوال فلا سبيل إلى ضبطها وتجنيسها وتخصيصها، ولكنها إذا ثبتت، لاح للعاقل في حكم طرد العرف أمور ضرورية" [17] ، وقول الغزالي (ت505هـ): "... وإما قرائن أحوال من إشارات ورموز وحركات وسوابـق ولواحق لا تدخل تـحت الحـصر والتخمين، يختص بدركها المشـاهد لهـا" [18] ، وقـول الزركشـي (ت794هـ): "وأما القرائن المعنوية فلا تنحصر" [19] ، وقول التلمساني (ت771هـ): "والقرينة الحالية قريبة من السياقية، وهي لا تنضبط" [20] ، وكإعراض الشوكاني (ت1255هـ) عن تفصيل ما سوى القرينة اللفظية من تقسيمه الثلاثي، الآتي قريبا، بإذن الله.

        إلا أنهم قد حاولوا مع ذلك عدة محاولات نقدم نماذج لأهم ما وقفنا عليه منها، مرتبة حسب عدد الأقسام، التي انتهى إليها كل منهم في محاولته، التي يختمها في الغالب بالتصريح بتعذر الوصول إلى المبتغى، ونخصص لكل فئة فقرة خاصة. [ ص: 93 ]

        الفقرة الأولى: التقسيم الثنائي:

        ونورد له نموذجان؛

        أولهما؛ قول الجويني (ت478هـ): "وهي تنقسم إلى قرائن "مقال"، وقرائن "أحوال"" [21] ، وقد ساعدنا من خلال التمثيل في نص آخر على تصور ما يسميه قرائن حالية، فقال: "فأما القرائن الحالية؛ فكقول القائل: رأيت الناس، وأخذت فتوى العلماء. ونحن نعلم أن حاله لا يحتمل رؤية الناس أجمعين، ومراجعة جميع العلماء" [22] .

        ويذكر منها أصنافا أخرى، فيقول: "وقد تكون القرينة إجماعا، أو اقتضاء عقل، أو ما في معناهما" [23] . ويوجه إلى أنواع منها كأسباب النزول والورود.

        وثانيهما؛ قول الزركشي (ت794هـ): "اعلم أن الكتاب هو القرآن المتـلو، وهـو: إما نـص، وهـو ما لا يحـتـمل إلا مـعـنى (...)، وإما ظـاهـر، وهو ما دل على معنى مع تجويز غيره. والرافع لذلك الاحتمال قرائن "لفظية" و"معنوية"" [24] .

        وبتأمل هذين النموذجين نجد أنهما يتفقان في حقيقة القرينة الأولى ويختلفان في تسميتها؛ فيسميها أحدهما "مقالية"، ويسميها الثاني "لفظية". [ ص: 94 ] في حين يضطربان في ما يقابلها؛ فيعتبره أحدهما قرينة "حالية"، ويعتبره الثاني قرينة "معنوية".

        ولم أقف فيمـا اطلـعت عليه على تصريح منهم بأن أصـل التقسيم هو إلى قرينة "لفظية" وقرينة "غير لفظية"، قبل أن يسمي غير اللفظية حالية أو معنوية أو غير ذلك أو يقسمها بعد حدها، إلا ما يمكن أن يستشف من كلام الشوكاني (ت1255هـ) الآتي، حين اعتمد قسمة ثلاثية، إلى؛ قرينة هي "معنى في المتكلم"، وقرينة هي "من جنس الكلام"، وقرينة "خارجة عن الصنفين"؛ فلا هي من جنس الكلام، ولا هي معنى في المتكلم [25] .

        وإن كنت وقفت على من اعتمد مثل ذاك التقسيم في الدلالة عموما كقول الزركشي (ت794هـ): "وهي تنقسم إلى لفظية وغير لفظية؛ والثانية قد تكون وضعية كدلالة وجود المشروط على وجود الشرط، وعقلية كدلالة الأثر على المؤثر، كدلالة الدخان على النار وبالعكس".

        الفقرة الثانية: التقسيم الثلاثي:

        ونورد له ثلاثة نماذج؛

        الأول؛ قول الإمام الغزالي (ت505هـ): "والقرينة؛ إما "لفظ" مكشوف (...)، وإما إحالة على دليل "العقل" (...)، وإما قرائن "أحوال" من إشارات ورموز وحركات وسوابق ولواحق" [26] . [ ص: 95 ]

        وقد وافقه ابن بدران (ت507هـ)، وإن كان قصده التمثيل لا التقسيم، فقال: "والقاعدة الكلية في الترجيح أنه متى اقترن بأحد الدليلين المتعـارضين أمر نقـلي؛ كآية أو خبر، أو اصطـلاحي؛ كعرف أو عادة، عاما كان الأمر أو خاصا.. أو قرينة "عقلية"، أو "لفظية"، أو "حالية" وأفاد ذلك زيادة ظن رجح به" [27] .

        الثاني؛ قول علي الجرجاني (ت816هـ): "وفي الاصطلاح أمر يشير إلى المطلوب، وهي؛ إما "حالية" أو "معنوية" أو "لفظية" نحو ضرب موسى عيسى، وضرب من في الغار من على السطح.. فإن الإعراب منتف فيه، بخلاف: ضربت موسى حبلى، وأكل موسى الكمثرى.. فإن في الأولى قرينة لفظية، وفي الثانية قرينة حالية" [28] . ولم نقف للجرجاني في تعريفاته على أي تمييز نظري بين "الحالية" و"المعنوية".

        الثالث؛ قول الشوكاني (ت1255هـ)، في أول تقسيميه: "البحث السادس في قرائن المجاز؛ اعلم أن القرينة إما خارجة عن المتكلم والكلام (أي لا تـكون معـنى في المتـكلم وصفة لـه، ولا تكون من جنس الكلام)، أو تكون معنى في المتكلم، أو تكون من جنس الكلام. وهذه القرينة، [ ص: 96 ] التي تكون من جنس الكلام؛ إما لفظ خارج عن هذا الكلام، الذي يكون المجاز فيه (...) أو غير خارج (...) ثم هذا القسم على نوعين؛ إما أن يكون بعض الأفراد أولى من بعض في دلالة ذلك اللفظ عليه" [29] .

        وحاصل كلامه: أنه يعتمد قسمة ثلاثية، إلى؛ قرينة هي "معنى في المتكلم"، وقرينة هي "من جنس الكلام"، وقرينة "خارجة عن الصنفين" (فلا هي من جنس الكلام، ولا هي معنى في المتكلم).

        ثم يشرع في تفصيل، التي هي من جنس الكلام (القرينة اللفظية)، ويعرض عن تفصيل الصنفين الآخرين، ويختم هذا التصنيف بالقول: "فانحصرت القرينة في هذه الأقسام" [30] .

        وواضح أن الشوكاني هنا يتحدث عن قرائن المجاز، وبالأخص القرينة المانعة، غير أنه لا مانع - في نظري- من تعميم قوله هذا على سائر القرائن.

        الفقرة الثالثة: التقسيم الرباعي:

        ونورد له نموذجان؛

        الأول؛ قـول التـلـمـسـاني (ت771هـ): "المـطـلـب الثـاني؛ في بيان القرائن المرجحـة لأحـد احتـمـالـين، وهـي إما "لفظية"، وإما "سياقية"، وإما "خارجية" [31] ، فيجعل القسمة ثلاثية، قبل أن يضيف إليها أثناء المناقشة قسما رابعا، حيث يقول: والقرينة "الحالية" قريبة من "السياقية" [32] . [ ص: 97 ]

        والحقيقـة أن التلمسـاني وإن كان أوصل الأقسام لفظيا إلى أربعة، فإنه لم يبرح التقسـيـم الثنائي حقيقة؛ ذلك أن القرينة الخارجية ما هي إلا قسم من أقسام القرينة اللفظية كما صرح به غير واحد منهم: كقول الشوكاني (ت1255هـ) الآنـف: "وهـذه القرينة، التي تكون من جنس الـكلام؛ إما لفظ خارج عن هذا الكلام (...) أو غير خارج"، وكقول الزركشي (ت794هـ): "واللفظية تنقسم؛ إلى متصلة ومنفصلة" [33] ، بل كما يقر هو نفسه حين يفسر مراده بالقرينة الخارجية فيقول: "وهي موافقة أحد المعنيين لدليل منفصل، من نص أو قياس أو عمل" [34] .

        وكذلك فإن القرينة السياقية أعم من هذه الأقسام كلها، إذ تدخل فيها اللفظية والحالية، وإن كان هو قد جعلها إلى الحالية أقرب بقوله: "والقرينة الحالية قريبة من السياقية" [35] .

        الثاني؛ قول الشوكاني (ت1255هـ) في ثاني تقسيميه: "ثم القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي؛ قد تكون "عقلية"، وقد تكون "حسية"، وقد تكون "عادية"، وقد تكون "شرعية" [36] . [ ص: 98 ]

        ومن الواضح أن الشوكاني قد سلك في هذا التقسيم (أو التمثيل)، مسلكا مغايرا لمسلكه في تقسيمه الثلاثي المنطقي، الذي بينا في الفقرة السابقة، حيث لم يبين مستند الحصر في هذا التقسيم، ولم يوضح الفروق بين هذه القرائن، كما أنه لم يتكئ على التقسيم المألوف عند سابقيه، فغابت في هذا التقسيم كبرى القرائن، التي هي القرينة اللفظية، وتغير فيه اسم ما يقابلها في التقسيم الثنائي من قرينة "حالية" أو "معنوية" إلى قرينة "حسية"، وظهرت فيه القرينة "الشرعية" والقرينة "العادية"، ويعني بهما الحقيقة الشرعية والحقيقة الاستعمالية العرفية، على ما هو معهود عندهم كما في قول ابن القيم: "فصل في تقاسيم الأسماء: وهي أربعة أقسام؛ وضعية، وعرفية، وشرعية، ومجاز مطلق" [37] .

        ولعل محاولة الشوكاني هذه، وإن لم ينضجها؛ تعد خطوة هامة في سبيل التفصيل. فكأنه ترك القرينة اللفظية ليقدم بدلا منها قرينتين مندرجتين تحتها وهما؛ "الأسـماء الشـرعيـة" وعرف "الاسـتعمال"، وهو معـذور في تجـاوز ثالثـهما، الذي هو "الوضع" اللغوي الأصلي، لأن حديثه هنا عن قرائن المجاز خصوصا.

        كما أنه لفت النظر إلى القرينة "الحسية"، التي نرى أنها تشكل مع القرينة "المعنـوية" فرعـين للقـرينـة "الحـالية"، كما سـيتبين عند التشجير، بإذن الله تعالى. [ ص: 99 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية