الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المبحث الثاني

        اللبس في قصد الإفهام عند المتكلم

        المطلب الأول: ضمائم اللبس المختصة بالمتكلم:

        أشرنا في مدخل هذا الفصل إلى أن ضمائم اللبس المختصة بالمتكلم أربعة؛ وذلك أن المتكلم إما أن يقصد اللبس، أو لا يقصده، فإن قصده فذاك "قصد اللبس"، وإن لم يقصده؛ فإما أن يأمنه، وهو: "أمن اللبس" وإما أن يخافه وهو "خوف اللبس"، فإن أمنه فلا إشكال، وإن خافه ولم يقصده، وجـب عليه "دفعه" بـما يـمنـعـه عند السامع، وذلك هو: "دفع اللبس". وها نحن نشرع في تفصيل ذلك بعون الله.

        الفقرة الأولى: قصد اللبس:

        وهو: "أن يتعمد المتكلم إخفاء مقصوده على السامع بوجه ما"، على نحو ما يقرره الرازي (ت606هـ) بقوله: "إن المواضعة تابعة لأغراض المتكلم، وقد يكون للإنسان غرض في تعريف غيره شيئا على التفصيل، وقد يكون غرضه تعريف ذلك الشيء على الإجمال، بحيث يكون ذكر التفصيل سببا للمفسـدة؛ كما روي عن أبي بـكر رضي الله عنه ، أنه قال للكـافـر الذي سـأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت ذهابهما إلى الغار: من هو ؟ فقال: "رجل يهديني [ ص: 121 ] السبيل". ولأنه ربما لا يكون المتكلم واثقا بصحة الشيء على التعيين، إلا أنه يكون واثقا بصحـة وجـود أحـدهما لا محالة، فحينئذ يطلق اللفظ المشترك، لئلا يكذب، ولا يكذب ولا يظهر جهله بذلك؛ فإن أي معنى يصح فله أن يقول: إنه مرادي" [1] .

        وعلى حد قول ابن جني (ت392هـ): "قولك‏:‏ عندي عشرون، واشـتريـت ثلاثين، وملـكت خمسـة وأربعين‏؛‏ فإن لم يعلم الـمـراد لزم التمييز إذا قصد المتكلم الإبانة‏،‏ فإن لم يرد ذلك وأراد الإلغاز وحذف جانب البيان، لم يوجب على نفسه ذكر التمييز‏.‏ وهذا إنما يصلحه ويفسده غرض المتكلم، وعليه مدار الكلام‏" [2] .‏

        وللعرب في هذا الشأن طرائف ونوادر؛ تخصصت كتب في جمعها وتصنيفها تحت عناوين مختلفة؛ منها ملاحن العرب، والتوريات، والإيماءات، والتعميات، والمعمى، والألغاز، والأحاجي، والمعاريض.. وفي هذا المعنى يقال: "إن للـعرب قصـدا إلى اللبـس كمـا لهـم قـصـد إلى الـبـيـان"، وفيه يقال: "في المعاريض مندوحة عن الكذب" [3] .

        والأصل أن يكون "قصد اللبس" في الأخبار ونحوها، لا في التكاليف الشرعية لأن البيان فيها واجب، وربما وقع فيها بعضه لاستيعاب معان متعددة [ ص: 122 ] على البدلية كما فسر به قوله : ( وترغبون أن تنكحوهن ) (النساء:127)؛ "قال أبو عبيدة: هذه الآية تحتمل الرغبة والنفرة؛ فإن حملته على الرغبة، كان المعنى: وترغبون "في" أن تنكحوهن، وإن حملته على النفرة، كان المعنى: وترغبون "عن" أن تنكحوهن؛ لدمامتهن (...) فصار كل من الحرفين مرادا على سبيل البدل" [4] ، وعلى هذا النحو سار الزركشي (ت794هـ)، فقال: "إن النساء يشتملن على وصفين؛ وصف الرغبة فيهن وعنهن، فحذف للتعميم" [5] . وهذا محل قولهم: "إن الإجمال من مقاصد البلغاء" [6] .

        الفقرة الثانية: أمن اللبس:

        وهو: "استبعاد المتكلم احتمال حصول اللبس عند السامع"، أو هو: "اعتماد المتكلم على قرائن قاطعة تمنعه من توقع حصول اللبس عند السامع"، ويعتبر علماء اللسان "أمن اللبس" هو العمدة في تسويغ "العدول عن الأصل" بالحذف، والإضمار، والالتفات، وتغيير الرتبة.. وغيرها.

        ومن ذلك قول أبي الفرج ابن الجوزي (ت597هـ): "العرب تنصرف من الخطاب إلى الغيبة إذا "أمن اللبس" [7] ، وقول أبي حفص الدمشقي [ ص: 123 ] (ت880هـ): "نحو: زيد هند ضاربها هو، والكوفيون يقولون: إن "أمن اللبس" -كهذا- لم يجب بروز الضمير، وإلا يجب" [8] .

        ومنه كذلك قول الآلوسي: "إذا كان قبل النفي استفهام فإن كان على حقيقته فجوابه كجواب النفي المجرد، وإن كان مرادا به التقرير فالأكثر أن يـجاب بـما يـجاب به النفي رعيا للفظه، ويجوز عند "أمن اللبس" أن يجاب بما يجاب به الإيجاب رعيا لمعناه"




            



        [9] .

        الفقرة الثالثة: خوف اللبس:

        وهو: "توقع المتكلم حصول اللبس عند السامع"، ويمنع علماء اللسان أي "عدول عن الأصل" عـنـد "خوف اللبس"، فلا يـجيزون معه الحذف ولا الإضمار ولا تغيير الرتبة مثلا.

        ومن أمثلة ذلك قول أبي حفص الدمشقي (ت880هـ): "إذا لم يظهر الإعراب في الفاعل والمفعول، وجب تقديم الفاعل فيما "يخاف فيه اللبس"، فعلى هذا إذا "أمن اللبس" جاز تقديم المفعول كقولك: "كسر العصا موسى" [10] . [ ص: 124 ]

        ومنه قول الصبان (ت1206هـ): "إذا تعارض "خوف اللبس" وكون الفاعل في المعنى محصورا فيه، نحو ما أعطيت عمرا إلا زيدا؛ إذا كان زيد هو الفاعل في المعنى، فإنه إن قدم لخوف اللبس انعكس الحصر، وإن قدم عمرو لأجل الحصر في زيد حصل اللبس" [11] .

        وقوله: "إذا تعارض "خوف اللبس" وعود الضمير إلى متأخر لفظا ورتبة كأعطيت المرأة زوجها؛ إذا كان زوجها هو الفاعل في المعنى" [12] .

        الفقرة الرابعة: دفع اللبس:

        وهو: "محاذرة المتكلم الإلباس على السامع عند التوقع وقبل الوقوع"، أو هو: "تضمين المتكلم قرائن تمنع حصول اللبس عند السامع إن توقعه منه".

        ومن أهم القرائن الدافعة للبس "إجراء الكلام على أصله"؛ رتبة، وإظهارا، وإتماما، ونحوها.. كما في قول الصبان (ت1206هـ): "فإنه لا طريق إلى "دفع اللبس" إلا بـحفظ "الرتبة"" [13] ، وكقـوله في تتمة كلامـه السابق في حصر الفاعل في المعنى: "ويمكن أن يقال: يراعى الحصر مع "القرينة الدافعة للبس" (...) ويظهر لي أن من مراعاة الحصر مع "دفع اللبس" تقديـم إلا مع المحصور فيه، كأن يقال: ما أعطيت إلا زيدا عمرا" [14] . [ ص: 125 ]

        وكقوله أيضا في تتمة كلامه الثاني على عود الضمير إلى متأخر لفظا ورتبة: "والظاهر فيه أيضا مراعاة الضمير مع "القرينة الدافعة للبس"، كأن يقال: أعطيت المرأة الرقيقة زوجها" [15] .

        ومن القرائن الدافعة للبس تأنيث الصفة المشتركة بين الجنسين إذا حذف موصوفها ولم تقم قرينة أخرى على تأنيثه؛ "قال الأزهري: وكان الشافعي يقول جارية بالغ، وسمعت العرب تقوله؛ وهذا التعلـيل والتمثـيل يفهم أنه لو لـم يذكر الـموصوف وجب التأنـيث "دفعا للبس""، ومن هذا القبيل تحسينهم لفظ "الزوجة" بإثبات التـاء في الفرائـض خـاصـة دفعا للبس، مع أنـها لغة ضعيفة لا تحسن إلا لنكتة بلاغية.

        المطلب الثاني: جوالب اللبس عند المتكلم:

        لقد رأينا في الوضع التركيبي كيف أن حرية المتكلم في التصرف في بنية الجملة استكمالا لعناصرها أو حذفا لبعضها، واحتفاظا بالرتبة فيها أو تشويشا لها، واستخداما للأسماء المظهرة أو إضمارا عنها.. قد تكون جوالب للبس في استعماله عند التركيب.. وتنضاف إلى ذلك جوالب أخرى كاستخدام اللفظ في غير معناه الوضعي على سبيل نقله بالاستعمال كما بينا في القرائن العرفية، أو على سبيل المجاز أو الكناية.

        وقد سعى الإمام الرازي (ت606هـ) لحصر أسباب اللبس التي قد تعيق السامع عن الوقوف على مراد المتكلم بالخطاب لسبب الوضع أو الاستعمال، [ ص: 126 ] فقال: "الخلل في فهم مراد المتكلم يكون على خمسة أوجه؛ أحدها: احتمال الاشتراك، وثانيها: احتمال النقل بالعرف أو الشرع، وثالثها: احتمال المجاز، ورابعها: احتمال الإضمار، وخامسها: احتمال التخصيص" [16] .

        وبين وجه الحصر بقوله: "ووجه كون هذه الوجوه تؤثر خللا في فهم مراد المتكلم: أنه إذا انتفى احتمال الاشتراك والنقل، كان اللفظ موضوعا لمعنى واحد، وإذا انتفى احتمال المجاز والإضمار كان المراد من اللفظ ما وضع لـه، وإذا انتفى احتمال التخصيص كان المراد باللفظ جميع ما وضع لـه، فلا يبقى عند ذلك خلل في الفهم" [17] .

        ثم حصر صور اللبس المحتملة لهذه الأسباب، بقوله: "والتعارض بين هذه يقع من عشرة وجوه، لأنه يقع بين الاشتراك وبين الأربعة الباقية، ثم بين النقل وبين الثلاثة الباقية، ثم بين المجاز والوجهين الباقيين، ثم بين الإضمار والتخصيص" [18] .

        وبتأمل هذه الأوجه كلها نجد أنها دائرة على ما لخصنا قبل في أسباب اللبس على مستويي الوضع والاستعمال، وفي طوري الإفراد والتركيب. [ ص: 127 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية