الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المبحث الثاني

        مناسبة الخطاب

        وهي: "الواقع الحسي والمعنوي المكتنف للخطاب عند إنشائه أو تنزيله"، فهي إذا؛ الحادثة، التي جاء الخطاب نتيجة لها ابتداء، أو دعت إلى استحضاره لسبب ما؛ ونسمي الأولى "مناسبة إنشائية" ومن أمثلتها: "أسباب النزول"؛ وهي خاصة بالقرآن الكريم، و"أسباب الورود"؛ وهي خاصة بالحديث النبوي الشريف، و"المورد"؛ وهو خاص بالأمثال وما يتنزل منزلتها، و"البساط"؛ وهو خاص بالأيمان وما شاكلها.

        ونسمي الثانية "مناسبة تنزيلية"، ونعني بها ما كان باعثا على إعادة خطاب سابق، قصد الاستشهاد ونحوه.. ونمثل لـها بمضرب المثل، ومناط الحكم، وسائر مناسبات الاستشهاد؛ بالقرآن، والحديث، والشعر، والقصص، والحكم، والأقوال.. على سبيل تصوير واقع معين، وتشبيهه بنظير سابق.. قصد تفسيره، أو الحكم عليه.

        ونحصر مناسبة الخطاب في عنصرين، هما: "الأحداث، والأعراض"؛ ونقصد بـ "الأحداث"؛ ما كان له وجود "حسي" قائم، ونعني بـ "الأعراض" ما يلابس تلك الأحداث من ظروف وأحوال "معنوية" ليس لها وجود حسي مستقل، مع أن لها تأثيرا ما على معنى الخطاب ودلالته. [ ص: 70 ]

        فأما الأحداث الحسية؛ فهي مربط الفرس في عنصر "المناسبة" بل في ركن "المقام" عموما.. قال الشاطبي (ت790هـ): "معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن (...) ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النـمط، فهي من المهمات في فهم الكتـاب بـلا بـد، ومعنى معرفة السـبب هو معنى معرفة مقتضى الحال" [1] . وقال الزركشي (ت794هـ)، وهو يعدد ما يلزم المفتي والمجتهد معرفته: "وعلم التواريخ مما تمس الحاجة إليه في معرفة الناسخ والمنسوخ" [2] .

        وأما الأعراض المعنوية؛ فهي مـكمـن الإشـكال لخفائها وتشعبها وتعـذر نقـلها لمـن لم يحضرها، رغم خطورة أثرها في توجيه معنى الخطاب، وهـذا ما يؤكده الشـاطـبي بالقـول: "وليس كل حال ينقل، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه (...) ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال" [3] .

        ويقول في موضـع آخر معللا بإدراك مثل هذه "الأعراض المعنوية"، التي يتعذر نقلها أولوية الصحابة بصحة الفهم، لـ "مباشرتهم للوقائع والنوازل وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة; فهم أقعد في فهم القرائن الحالية، وأعرف [ ص: 71 ] بأسـباب التــنزيل; ويـدركون ما لا يـدركه غيرهم بسبب ذلك، والشـاهد يرى ما لا يرى الغـائب... وأنهم شـاهدوا من أسـباب التكـاليف وقرائن أحوالها ما لم يشاهد من بعدهم.. ونقل قرائن الأحوال على ما هي عليه كالمتعذر; فلابد من القول بأن فهمهم في الشريعة أتم وأحرى بالتقديم" [4] .

        ويعتبر ابن تيمية (ت728هـ)، المناسبة عموما إحدى الوسائط المفضية إلى معـرفـة قصـد المتـكلم، فـيـقـول: "فجـهات معرفة مراد المتكلم ثلاثة (في كلام الشـارع، وكلام العباد؛ من حالف، وغيره)؛ أحدها: العلم بقصده من دليل منفصل؛ كتفسير السنة للكتاب، وتخصيص العموم، وقول الحالف: أردت كذا. والثاني: سبب الكلام، وحال المتكلم. والثالث: وضع اللفظ؛ مفرده، ومركبه" [5] .

        ويخص "بساط اليمين" بالقول: "من أصلنا الرجوع إلى "سبب اليمين" وما هيجها قبل الرجوع إلى "الوضع"" [6] . [ ص: 72 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية