الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المبحث الأول

        نسق المقالات

        ونعني به الخطابات السابقة واللاحقة للخطاب المدروس، ككل آي السورة، التي نريد دراسة آية منها، بل كل القرآن، وكل الأحاديث أيضا... ومنه السؤال بالنسبة إلى جوابه، والتعليق بالنسبة إلى المحاضرة.. ومنه كذلك كل المدونات والمساطر القانونية المتعلقة بموضوع ما، بالنسبة إلى أي مادة في ذاك الموضوع ذاته، أو أي موضوع يشاكله أو يداخله أو يقاربه.

        فنسـق المقالات إذا هو "مـجـموع النـصـوص أو الوثـائق، التي ينتـمي إليها الخطاب"، إذ لا يمكن فهمه مستقلا عنها، لأنه ربما كان بيانا لبعضها، أو كان بعضها بيانا له.. وسواء كانت سوابق الخطاب ولواحقه هذه لنفس المتكلم به، أو لمتكلم غيره.

        وقد بدت العناية بهذا النظر الشمولي في الخطاب مبكرة عند علمائنا، فهذا الإمام الشافعي يسطرها في أول وثيقة لقوانين التفهم، وضوابط الاستدلال، فيقول متحدثا عن معهود العرب في خطابها، الذي نزل به القرآن: "وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول لفظها فيه عن آخره، وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظها منه عن أوله" [1] ، ليثبت بذلك أنه لا يجوز النظر التجزيئي في نصوص الوحي، لأنها كل، يلزم التعامل معه بنظرة شمولية مستوعبة. [ ص: 76 ]

        ويقـول الإمام أحمد (ت241هـ): "الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحـديث يفسـر بعضه بعـضا" [2] ، ويقول يـحـيـى بن معـين (ت233هـ): "لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها ما عقلناه" [3] ، ويقول علي بن المديني (ت234هـ): "الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه" [4] .

        وعلى هذا المعنى أجمع الأئمة والعلماء في كل التخصصات، فهذا الإمام ابن حزم (ت456هـ) يـقـول: "والحـديـث والـقـرآن كلـه كلفظـة واحـدة، فلا يحكم بآية دون أخرى، ولا بحديث دون آخر، بل يضم كل ذلك بعضه إلى بعض، إذ ليس بعض ذلك أولى بالاتباع من بعض، ومن فعل غير هذا فقد تحكم بلا دليل" [5] .

        وهذا الشاطبي (ت790هـ) يقول: "فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره. وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فـهـم المـكلف، فـإن فرق النظر في أجـزائه فلا يتوصل به إلى مراده، [ ص: 77 ] فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض" [6] ، ويقول: "الشريعة كالصورة الواحدة (...) لا يطلب منها حكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها، لا من دليل منها أي دليل كان" [7] .

        وقد عد ابن القيم (ت751هـ) هذا النظر الشمولي من أهم الأسباب، التي تؤدي إلى تفاوت الناس في الفهم، فقال: "وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر متعلق به؛ فيفهم من اقترانه به قدرا زائدا على ذلك اللفظ بمفرده، وهذا باب عجيب من فهم القرآن، لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم. فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا، وتعلقه به، وهذا كما فهم ابن عباس من قوله تعالى: ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) (الأحقاف:15)، مع قوله: ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) (البقرة:233)؛ أن المرأة قد تلد لستة أشهر. وكما فهم الصديق من آية الفرائض في أول السورة، وآخرها؛ أن الكلالة من لا ولد له، ولا والد" [8] .

        ومنهم من يعبر عن السوابق واللواحق بأي لفظ يؤدي معناها، كما في قول ابن جزي الكلبي (ت792هـ) وهو يعدد وجوه الترجيح: "السادس: أن يشهد بصحة القول سياق الكلام، ويدل عليه ما قبله أو ما بعده" [9] . [ ص: 78 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية