الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المبحث الثاني

        تحديد قصد المتكلم عند الحمل

        شغل هذا الموضوع من الناحية التطبيقية حيزا كبيرا من اهتمام علمائنا، لكنه لم يحظ عندهم من الناحية النظرية بما حظي به سابقه، غير أن اللفتات النادرة التي وقفنا عليها عندهم تكفي لإبراز مناهجهم في سبل تحديد قصد المتكلم عند محاولة تفهم خطابه، كما في قول ابن تيمية (ت728هـ) حين يحيلنا إلى مظان القرائن الكاشفة عن قصد المتكلم، ويحصرها في ثلاث جهات هي نفسها أركان السياق التي لها وجود مستقل، وهي المقال والمقام والنسق، وأما الركن الرابع الذي هو القرينة فلم يتطرق إليه إذ لا وجود له خارج تلك الأركان، فيقول: "فجهات معرفة مراد المتكلم ثلاثة (في كلام الشارع، وكلام العباد؛ من حالف، وغيره)؛ أحدها: العلم بقصده من دليل منفصل؛ كتفسير السنة للكتاب، وتخصيص العموم، وقول الحالف: أردت كذا. والثاني: سبب الكلام، وحال المتكلم. والثالث: وضع اللفظ؛ مفرده، ومركبه.. ويدخل فيه القرائن اللفظية" [1] . [ ص: 141 ]

        فقد أحال بالجهة الأولى على نسق المقالات، وأحال بالجهة الثانية على المقام الخاص للخطاب أصالة وعلى نسق مقاماته تبعا، ثم أحال بالجهة الثالثة على المقال ذاته. وقد مر بنا قريبا كلام الرازي في حصر الأوجه المعيقة للسامع عن الوصول إلى قصد المتكلم.

        ويمكننا القول عموما: إن تنظيراتهم لمعالجة هذا الإشكال تدور على ثلاثة محاور رئيسة؛ أولها: التنظير لاحتمالات التطابق والتباين بين اللفظ والقصد ابتداء، وثانيها: التنظير لاحتمالات التطابق والتباين بين مقتضيي المقال والمقام، وثالثها: كشف أثر قصد المتكلم في توجيه الحمل انتهاء، وسنفرد لكل محور منها مطلبا خاصا.

        المطلب الأول: التطابق والتبيان بين اللفظ والقصد:

        يحدثنا عن ذلك ابن القيم (ت751هـ)، فيقول: "الألفاظ بالنسبة إلى مقاصد المتكلمين، ونياتهم، وإراداتهم لمعانيها.. ثلاثة أقسام؛ (...) أحدها: أن تظهر مطابقة القصد للفظ؛ وللظهور مراتب تنتهي إلى اليقين والقطع بمراد المتكلم، بحسب الكلام في نفسه، وما يقترن به من القرائن الحالية واللفظية، وحال المتكلم به (...) الثاني ما يظهر بأن المتكلم لم يرد معناه، وقد ينتهي هذا الظهور إلى حد اليقين بحيث لا يشك السامع فيه. وهذا القسم نوعان؛ أحدهما: أن لا يكون مريدا لمقتضاه ولا لغيره، والثاني: أن يكون مريدا لمعنى يخالفه. فالأول: كالمكره، والنائم، والمجنون، ومن اشتد به الغضب، والسكران.. [ ص: 142 ] والثاني: كالمـعرض، والـمورى والـملغز والمتأول (...) الثالث: ما هو ظاهر في معناه، ويحتمل إرادة المتكلم لـه، ويحتمل إرادته غيره.. ولا دلالة على واحد من الأمرين، واللفظ دال على المعنى الموضوع له، وقد أتى به اختيارا" [2] .

        ويضيف السبكي ومن قبله ابن العربي والجويني صورة هامة إلى صور "انتفاء القصد" زائدة على ما أشار إليه ابن القيم، يقول السبكي (ت756هـ): "كلام الله تعالى منزل على لسان العرب، وقانونهم، وأسلوبهم.. فإذا جاء فيه لفظ عام تحته صورة نادرة، وعادة العرب إذا أطلقت ذلك اللفظ لا تمر تلك الصورة ببالها؛ يقول هذه الصورة ليست داخلة في مراد الله تعالى من هذا اللفظ، وإن كان عالما بها.. لأن هذا اللفظ يطلق عند العرب ولا يراد هذه الصورة" [3] .

        وفي نفس المعنى يقول ابن العربي (ت543هـ): "إمام الحرمين في كتاب العمد قال: إن العموم إذا ورد، وقلنا باستعماله، أو قام دليل على وجوب القول به؛ فإنما يتناول الغالب دون الشاذ النادر الذي لا يخطر ببال القائل. وصـدق؛ فإن العموم إنـما يـكون عمـوما بالقصـد المقارن للقول، [ ص: 143 ] فما قطع على أن القائل لم يقصده لا يتناوله القول، وعلى هذا لا يتناول الحكم في العموم ما يعترض عليه بالإبطال" [4] .

        ويلخص ابن القيم الحكم في هذه الصور كلها فيقول: "وعند هذا يقال: إذا ظهر قصد المتكلم لمعنى الكلام، أو لم يظهر قصد يـخالف كلامه؛ وجب حمـل كلامه على ظـاهره. والأدلة التي ذكرها الشـافـعـي رضي الله عنه وأضعافها؛ كلها إنما تدل على ذلك. وهذا حق لا ينازع فيه عالم" [5] .

        المطلب الثاني: التطابق والتباين بين المقال والمقام:

        يتطلب إدراك قصد المتكلم تقليب النظر بين جهتي "مقتضى المقال" و"مقتضى المقام"، ذلك أن معنى أي خطاب ينظر إليه من زاويتين: زاوية داخلية؛ هدفها تحديد مقتضى ألفاظه، وزاوية خارجية؛ هدفها تحديد علاقاته بمحيطه مقاما ونسقا. أو لنقل: "وضعه في مكانه ضمن نسقه، وتنزيله على محله من خلال مقامه".

        ومن ثم فإما أن يكون بين النتيجتين؛ تناسب كلي، أو جزئي، أو يكون بينهما تناقض. وفي هذا المعنى يقول ابن القيم (ت751هـ): "ومراده يظهر من [ ص: 144 ] عموم لفظه تارة، ومن عموم المعنى الذي قصده تارة، وقد يكون فهمه من المعنى أقوى، وقد يكون من اللفظ أقوى، وقد يتقاربان" [6] ، فكأنه أراد بقوله: "عموم المعنى الذي قصده"؛ "مقتضيات الأحوال".

        وانطلاقا من هذا التصور، فإن في المسألة ثلاث احتمالات واردة، هي: التطابق بين المقتضيين، والاحتمالية فيهما، والتناقض بينهما، فلنفرد لكل احتمال منها فقرة خاصة.

        الفقرة الأولى: التطابق بين دلالتي المقال والمقام:

        وهو ما نقصده بـ"التناسب الكلي"، أي: "أن لا يحتمل نظم الخطاب غير معنى واحد، ويكون ذلك المعنى مناسبا من كل الجوانب لمحيطه"؛ وعندها فالخطاب "نـص"، واللبس غير حاصل، وفي هذا المعنى يقول الغزالي (ت505هـ): "ثم إن كان نصا لا يحتمل كفى معرفة اللغة" [7] ، وهذا ما أشار إليه ابن القيم بقوله الآنف: "وقد يتقاربان"، ومن باب أحرى إذا تطابقا.

        وفي الاحتمالين الآخرين؛ يكون الرجوع إلى السياق، هو السبيل الوحيد، لـ"رفع اللبس" بـ"إزالة التناقض، أو ضبط التناسب"، وهذا ما قصده الغزالي (ت505هـ) بقوله بعد كلامه السابق: "وإن تطرق إليه الاحتمال فلا يعرف المراد منه حقيقة، إلا بانضمام قرينة إلى اللفظ" [8] . [ ص: 145 ]

        الفقرة الثانية: الاحتمالية في دلالتي المقال والمقام:

        وهو ما نقصده بـ"التناسب الجزئي": أي "أن يكون للخطاب عدة معان، يناسب بعضها على الأقل محيطه"، وهذه هي أكثر الصور الملجئة إلى توظيف السياق في التفهم، وهي أكثرها تعقيدا، وأوسعها شيوعا.. وفيها قيل: "العربية حمالة أوجه".

        ويقرر ابن القيم (ت751هـ) أن اقتضاء اللفظ أصل لا يمكن العدول عنه، إلا لقرينة يجب التسليم لها، فيقول: "إذا ظهر قصد المتكلم لمعنى الكلام، أو لم يظهر قصد يخالف كلامه؛ وجب حمل كلامه على ظاهره. والأدلة التي ذكرها الشافعي رضي الله عنه وأضعافها؛ كلها إنما تدل على ذلك. وهذا حق لا ينازع فيه عالم" [9] .

        ويقول العز بن عبد السلام (ت660هـ): "قد يتردد المعنى بين محامل كثيرة يتساوى بعضـها مع بعـض، ويترجـح بعضها على بعض، وأولى الأقـوال ما دل عليه الكتاب في مـوضـع آخر أو السنـتة، أو إجمـاع الأمـة، أو سياق الكلام. وإذا احتمل الكلام معنيين وكان حمله على أحدهما أوضح وأشد موافقة للسياق، كان الحمل عليه أولى" [10] . [ ص: 146 ]

        الفقرة الثالثة: التناقض بين دلالتي المقال والمقام:

        ونعني بالتناقض؛ ما "إذا كان لفظ الخطاب لا يحتمل غير معنى واحد، وكان ذلك المعنى غير مناسب لمحيط الخطاب البتة".

        ومثال ذلك؛ قول مدين لشعيب عليه السلام: ( إنك لأنت الحليم الرشيد ) (هود:87)، فإذا نظرنا إلى هذا الخطاب (من الزاوية الداخلية)، وجدنا أن لفظه لا يحتمل أكثر من معنى واحد؛ إذ هو "نص" في المدح. ثم إذا نظرنا إليه (من الزاوية الخارجية)؛ من حيث "علاقته بمحيطه"؛ اكتشفنا بديهة مدى التناقض بين النتيجتين.

        وفي هذا المعني يقول ابن الفراء (ت458هـ): "دلالة الحال تنقل حكم الكلام إلى ضد ما أوجب لفظه في حقيقة اللغة، نحو قوله : ( اعملوا ما شئتم ) (فصلت:40)؛ ظاهره الأمر والمراد به النهاية في الزجر، وكذلك قوله: ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) (الكهف:29)، وقوله: ( واستفزز من استطعت منهم بصوتك ) (الإسراء:64).. ونحو ذلك، فلو ورد هذا اللفظ مبتدأ عاريا من دلالة الحال لكان ظاهره يقتضي إباحة جميع الأفعال، وهو في هذه الحال وعيد وزجر، بخلاف ما يقتضيه اللفظ المعلق العاري من دلالة الحال (...) فكانت دلالة الحال ناقلة لحكم اللفظ إلى ضد مقتضاه وموجبه لو كان ورد مطلقا" [ ص: 147 ] [11] .

        ويؤكد السرخسي (ت483هـ) ذلك، فيقول: "الكلام الواحد قد يكون مدحا، وقد يكون ذما، وإنما يتبين أحدهما عن الآخر بالمقدمة، ودلالة الحال، فإن لم تعتبر دلالة الحال لا يتميز المدح من الذم" [12] .

        المطلب الثالث: أثر قصد المتكلم في توجيه الحمل:

        كثمرة لمعرفة قصد المتكلم قد يحمل السامع الكلام على خلاف الظاهر من لفظه، فيحمل ما ظاهره العموم على الخصوص، وما ظاهره الخصوص على العموم، ويجعل المحتمل نصا، أو يجعل النص محتملا، ويحمل ما ظاهره المدح على القدح، وما ظاهره القدح على المدح، كما رأينا آنفا.

        وفي هذا المعنى يقول الرازي (ت606هـ): "وأما الذي يصير به العام خاصا، فهو قصد المتكلم" [13] ، ويقول: "وأما المخصص للعموم فيقال على الحقيقة على شيء واحد؛ وهو إرادة صاحب الكلام، لأنها المؤثر في إيقاع ذلك الكلام لإفادة البعض، فإنه إذا جاز أن يرد الخطاب خاصا، وجاز أن يرد عاما، لم يترجح أحدهما على الآخر إلا بالإرادة" [14] . [ ص: 148 ]

        ويقول ابن دقيق العيد (ت702هـ): "أما السياق والقرائن فإنها الدالة على مراد المتكلم من كلامه، وهي المرشدة إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات. فاضبط هذه القاعدة فإنها مفيدة في أماكن لا تحصى" [15] .

        وأما الغزالي وابن قدامة فيريانه الفيصل في اعتبار المفاهيم والتنبيهات، قال الغزالي (ت505هـ): "فهم غير المنطوق به من المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده" [16] ، وقال ابن قدامة (ت620هـ): "التنبيه وهو فهم الحكم في المسكوت عنه من المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده" [17] .

        ويجمل ابن القيم (ت751هـ) تلك الجزئيات كلها وغيرها معها، فيجعل البحث عن قصد المتكلم هو "مناط الفقه"، والمعول عليه في الحكم: "والفقه أخص من الفهم؛ وهو فهم مراد المتكلم من كلامه، وهذا قدر زائد على مجرد وضع اللفظ في اللغة، وبحسب تفاوت مراتب الناس في هذا تتفاوت مراتبهم في الفقه والعلم" [18] ، ويقول: "والتعويل في الحكم على قصد المتكلم، والألفاظ لم تقصد لنفسها، وإنما هي مقصودة للمعاني والتوصل بها إلى معرفة مراد المتكلم" [19] . [ ص: 149 ]

        بل يجعله الميزان القسط في تمييز المحققين العارفين عمن سواهم، فيقول: "العارف يقول: ماذا أراد؟ واللفظي يقول: ماذا قال؟" [20] ، ويقول: "فإياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه، فتجني عليه وعلى الشريعة، وتنسب إليها ما هي بريئة منه، وتلزم الحالف والـمقر والناذر والعاقد ما لم يلزمه الله ورسوله به؛ ففقيه النفس يقول: ما أردت؟ ونصف الفقيه يقول: ما قلت؟" [21] .

        وهذا ما يحكيه ابن رشد (ت595هـ) من مذهب الإمام مالك (ت179هـ) رضي الله عنه في اعتبار النية التي هي قصد المتكلم: "وأما مالك فإن المشهور من مذهبه أن المعتبر أولا عنده في الأيمان التي لا يقضى على حالفها هو النية، فإن عدمت فقرينة الحال، فإن عدمت فعرف اللفظ، فإن عدم فدلالة اللغة" [22] ، وهو محل قول ابن تيمية (ت728هـ): "من أصلنا الرجوع إلى "سبب اليمين" وما هيجها قبل الرجوع إلى "الوضع"" [23] . [ ص: 150 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية