الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المبحث الثاني

        نسق المقامات

        إذا كنا قد قصدنا بـ"المقام" الإطار الحالي للخطاب، فإننا نقصد هنا بـ"نسق المقامات" كل المقامات السابقة واللاحقة للمقام المباشر للخطاب، والـتي تـربـطـه بـهـا "علاقـة سـببية" سـواء كان فـيـها هـو "السبب" أو "المسبب".

        فنسق المقامات إذا يشمل كل الأحداث والأعراض؛ السابقة واللاحقة لمقام الخطاب، مما يمكن أن يؤثر في معناه، فتدخل فيه تراكمات الأحداث، التي ولدت مناسبته، وكذا ردات الأفعال "غير اللفظية"، التي يسببها خطاب معين في محيطه أحداثا كانت أو أعراضا، فتكون منه سوابق مقامية ولواحق مقامية، وسنفرد لكل منهما مطلبا، لما نرى من حاجتهما إلى البيان أكثر من السوابق واللواحق المقالية.

        المطلب الأول: السوابق المقامية:

        وهي "شواهد الأحوال القبلية"؛ أي السابقة لمقام الخطاب سواء كانت أحداثا أو أعراضا، ونمثل لها بالمحيط الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي المكتنف لمناسبة الخطاب.. وإن لم يكن هو المناسبة ذاتها، وما يعتريه من أحوال وتقلبات، قد تساعد في تحديد معنى الخطاب. [ ص: 79 ]

        ورعيا لهذا الجانب كان الاعتناء البالغ من سلف هذه الأمة بتسجيل السير، وتدوين أشعار العرب، وأمثالهم، وخطبهم، وأيامهم، ووصف بيئاتهم، وعاداتهم.. حتى ما لم يكن منها مناسبة لورود نص شرعي معين، وهذا ما نص عليه الشاطبي (ت790هـ)، بقوله: "ومن ذلك: معرفة عادات العرب في أقوالها، وأفعالها، ومجاري أحوالها حالة التنزيل -وإن لم يكن ثم "سبب خاص" - لا بد لمن أراد الخوض في علم القرآن منه، وإلا وقع في الشبه والإشكالات، التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة" [1] .

        ولهذا المعنى -أيضا- وجه عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس إلى التمسك بديوان شعرهم في جاهليتهم، مصرحا بضرورة ذلك لفهم كتاب الله تعالى [2] ، ولئن كان عمر رضي الله عنه يقصد أصالة "حفظ ألفاظ اللسان العربي"، فإن ذلك لا يجدي ضرورة إلا بإدراك السياقات المقامية، التي تفسر تلك الألفاظ وتبين مدلولاتها والتي من شأنها أن توجه فهم الناظر في القرآن والسنة وتصححه، وتعمقه، وتبعد عنه الاحتمالات غير المناسبة.. وتعرف الصور، التي يمكن إلحاقها بقرينة "قصد المتكلم".. وتلك، التي يمكن استبعادها بعدم "احتمال ورودها" على ذهن السامع.. انطلاقا من سياق الحال.

        ولمزيد من البيان فإن اللفظ الصريح في التوكيل إذا سبقه من قرائن الأحوال وشواهدها ما يدل على العناد والتحدي قد يصرف عن معنى التوكيل [ ص: 80 ] إلى معاني التعجيز أو التهكم والتبكيت.. كما لو قال رجل لآخر: "لأبيعن دارك! أو لأطلقن عليك امرأتك!"، فأجابه: "تفضل! بعها، أو طلقها!"؛ فإن هذا اللفظ من جهة الوضع والاستعمال الشرعي والجمهوري نص في التوكيل.. ولكن ظروف العناد والتحدي، التي تكتنفه، تصرفه -بديهة- عن تلك الدلالة في هذا المقام إلى دلالة التعجيز والتبكيت، فيصبح من قبيل قوله: "لا تستطيع!!" [3] .

        وقل الشيء نفسه في ألفاظ الإقرار والتزكية والتجريح مع نحو تلك السوابق المقامية. وهذا ما انتهى إليه أبو السعود (ت951هـ) -وغيره- عند تفسيره لما حكاه الله من قول مدين لشعيب عليه السلام: ( إنك لأنت الحليم الرشيد ) (هود:87)، يقول: "وصفوه عليه السلام بالوصفين، على طريقة التهكم. وإنما أرادوا بذلك وصفه بضديهما، كقول الخزنة: ( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) (الدخان:49) (...) وأما وصفه بهما على الحقيقة فيأباه مقام الاستهزاء" [4] . [ ص: 81 ]

        المطلب الثاني: اللواحق المقامية:

        ونعني بها "شواهد الأحوال البعدية"؛ أي اللاحقة للخطاب، وحاصل ما نرمي إليه؛ هو أنه كما قد يتأثر معنى الخطاب بما علم قبله من أحوال وملابسات، إلى حد يتعين معه صرفه عن ظاهره، فإنه قد يتأثر -كذلك- بالأحـوال والمـلابسـات اللاحـقـة له، فيتعين صرفه عن مقتضى اللفظ إلى ما تقتضيه تلك الملابسات والتأثيرات، التي ولدها لدى سامعيه المستوعبين له [5] ولسياقه.

        ولعل هذه النقطة هي الأبعد تصورا، والأندر ذكرا في كتب الأقدمين. ولذلك نسوق لها مثالا تقريبيا: فحينما نشاهد دون سابق علم شخصا يكيل لآخر عبارات الثناء والإطراء: "أيها الشهم الكريم، يا صاحب المروآت والتفضلات.. يا أبر الأبناء، وأشفق الإخوة.."؛ يتبادر إلى الذهن أن القصد هو المـدح والاعتراف بالجميل، خصـوصـا إذا بدا المتـكلم غير مـتـشـنـج، ولا متوجع.. ونصل إلى درجة اليقين التام حين نتفرس السامع، ونقيس درجة [ ص: 82 ] الآثار "البعدية"، التي يخلفها الخطاب على وجهه؛ فنرى علامات الارتياح ترتسم عليه، ونلحظ جسمه يتمدد لا شعوريا ليأخذ من الفراغ حيزا أكبر!..

        لكن؛ إذا بدا لنا التغير في وجه السامع، والإطراق أو الإرباك أو الخجل في عينيه.. وبدا جسمه في انقباض وذبول وتصاغر.. انقلبت الموازين فجأة؛ فأيقنا تمام اليقين: أن عبارات المدح تلك، تحمل من الشتم والسب والتقريع.. ما تضيق عنه كل العبارات، التي وضعت له أصالة!..

        وفي هذا المعنى يقول الرازي (ت606هـ): "فكل صفة وقعت في سياق المدح كانت مدحا، وكل صفة وقعت في سياق الذم كانت ذما، فما كان مدحا بالوضع فوقع في سياق الذم صار ذما واستهزاء وتهكما بعرف الاستعمال" [6] .

        ومن أين يأتينا ذاك اليقين، إلا من شواهد "الآثار البعدية"، التي خلفها الخطـاب، طالما أنه لا علم لنا مطلقا بالمتخاطبين وعلاقتهما ومناسبة التخاطب بينهما.

        حتى هذه المعاني المتعلقة بوصف الأحوال وضبط تأثيراتها في معنى الخطاب لم يغفلها علماؤنا، رغم بعدها الظاهري عن مجالات اهتمامهم. [ ص: 83 ]

        ومن أمثلة اعتماد الناظر في تحديد دلالة الخطاب على ما علم من فهم من هو أكثر منه استيعابا لحيثيات الخطاب، ما قرره الإمام مالك رضي الله عنه من الاعتماد على حديث "حميد بن عبد الرحمن، أن عمر بن الخطاب، وعثمان ابن عفان كانا يصليان المغرب حين ينظران إلى الليل الأسود قبل أن يفطرا، ثم يفطران بعد الصلاة، وذلك في رمضان" [7] ، فأخذ هو وأصحابه من عملهـما عـدم منـافـاة تـأخـير الـفـطر عن الصلاة لما جاء في حديث سهل ابن سعد: ( لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر ) [8] ؛ قال الباجي (ت474هـ): "فإذا فرغا من الصلاة أفطرا، وليس هذا بتأخير للفطر؛ لأن التأخير إنما كره ممن أخره إلى اشتباك النجوم على وجه المبالغة" [9] .

        وفي هذا المعنى يقول الشاطبي (ت970هـ): "فلهذا كله وجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به، فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل" [ ص: 84 ] [10] .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية