الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال إبراهيم بن أدهم إلهي ، إنك تعلم أن الجنة لا تزن عندي جناح بعوضة في جنب ما أكرمتني من محبتك ، وآنستني بذكرك ، وفرغتني للتفكر في عظمتك . وقال السري رحمه الله من أحب الله عاش ومن مال إلى الدنيا طاش ، والأحمق يغدو ويروح في لاش والعاقل عن عيوبه فتاش .

وقيل لرابعة كيف حبك للرسول : صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : والله إني لأحبه حبا شديدا ، ولكن حب الخالق شغلني عن حب المخلوقين .

وسئل عليه السلام : عن أفضل الأعمال فقال : الرضا عن الله تعالى والحب له .

وقال أبو يزيد المحب لا يحب الدنيا ولا الآخرة إنما يحب من مولاه مولاه .

وقال الشبلي الحب دهش في لذة ، وحيرة في تعظيم .

وقيل : المحبة أن تمحو أثرك عنك حتى لا يبقى فيك شيء راجع منك إليك وقيل : المحبة قرب القلب من المحبوب بالاستبشار والفرح .

وقال الخواص المحبة محو الإرادات واحتراق ، الصفات والحاجات وسئل سهل عن المحبة فقال : عطف الله بقلب عبده لمشاهدته بعد الفهم للمراد منه .

وقيل : معاملة المحب على أربع منازل ؛ على المحبة ، والهيبة ، والحياء ، والتعظيم . وأفضلها التعظيم والمحبة لأن هاتين المنزلتين ؛ تبقيان مع أهل الجنة في الجنة ، ويرفع عنهم غيرهما وقال هرم بن حبان المؤمن إذا عرف ربه : عز وجل : أحبه وإذا أحبه أقبل عليه وإذا وجد حلاوة الإقبال عليه لم ينظر إلى الدنيا بعين الشهوة ولم ينظر إلى الآخرة بعين الفترة : وهي تحسره في الدنيا وتروحه في الآخرة وقال عبد الله بن محمد سمعت امرأة من المتعبدات تقول وهي باكية والدموع على خدها جارية : والله لقد سئمت من الحياة حتى لو وجدت الموت يباع لاشتريته ؛ شوقا إلى الله تعالى ، وحبا للقائه . قال : فقلت لها : فعلى ثقة أنت من عملك ؟ قالت : لا ، ولكن لحبي إياه وحسن ظني به ، أفتراه يعذبني وأنا أحبه ؟ وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ، ورفقي بهم ، وشوقي إلى ترك معاصيهم ، لماتوا شوقا إلي ، وتقطعت أوصالهم من محبتي ، يا داود ، هذه إرادتي في المدبرين علي ، فكيف إرادتي في المقبلين علي ؟! يا داود ، أحوج ما يكون العبد إلي إذا استغنى عني ، وأرحم ما أكون بعبدي إذا أدبر عني ، وأجل ما يكون عبدي إذا رجع إلي . وقال أبو خالد الصفار لقي نبي من الأنبياء عابدا فقال له : إنكم معاشر العباد تعملون على أمر لسنا معشر الأنبياء نعمل عليه ؛ أنتم تعملون على الخوف والرجاء ، ونحن نعمل على المحبة والشوق .

وقال الشبلي رحمه الله أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : يا داود ، ذكري للذاكرين وجنتي للمطيعين وزيارتي للمشتاقين وأنا خاصة للمحبين وأوحى الله تعالى إلى آدم عليه السلام : يا آدم ، من أحب حبيبا صدق قوله من ، أنس بحبيبه رضي فعله ، ومن اشتاق إليه جد في مسيره .

وكان الخواص رحمه الله يضرب على صدره ويقول : واشوقاه لمن يراني ولا أراه .

وقال الجنيد رحمه الله بكى يونس عليه السلام : حتى عمي ، وقام حتى انحنى وصلى حتى أقعد ، وقال : وعزتك وجلالك ، لو كان بيني وبينك بحر من نار لخضته إليك شوقا مني إليك .

وعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال : سألت رسول الله : صلى الله عليه وسلم : عن سنته فقال : المعرفة رأس مالي ، والعقل أصل ديني ، والحب أساسي ، والشوق مركبي ، وذكر الله أنيسي ، والثقة كنزي ، والحزن رفيقي ، والعلم سلاحي ، والصبر ردائي ، والرضا غنيمتي ، والعجز فخري ، والزهد حرفتي ، واليقين قوتي ، والصدق شفيعي ، والطاعة حبي ، والجهاد خلقي ، وقرة عيني في الصلاة .

التالي السابق


(وقال إبراهيم بن أدهم) رحمه الله تعالى مشيرا إلى عظم مقام المحبة: (إلهي، إنك تعلم أن الجنة لا تزن عندي جناح بعوضة في جنب ما أكرمتني من محبتك، وآنستني بذكرك، وفرغتني للتفكر في عظمتك.) رواه أبو نعيم في الحلية فقال: حدثنا أحمد بن محمد بن مقسم، حدثنا محمد بن سعيد صاحب الجنيد قال: سمعت المنصوري يقول: سمعت بشارا يقول: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: اللهم إنك تعلم أن الجنة لا تزن عندي جناح بعوضة إذا أنت آنستني بذكرك، ورزقتني حبك، وسهلت علي طاعتك، فأعط الجنة لمن شئت.

حدثنا أبو أحمد الحسين بن علي التميمي النيسابوري، حدثنا محمد بن المسيب الأرغياني، حدثنا عبد الله بن خبيب، حدثنا محمد بن بحر قال: قال إبراهيم بن أدهم: اللهم إنك تعلم أن الجنة لا تزن عندي جناح بعوضة فما دونها إذا أنت وهبت لي حبك، وآنستني بمذاكرتك، وفرغتني للتفكر في عظمتك. (وقال السري السقطي) -رحمه الله تعالى-: (من أحب الله عاش) عيشة أبدية، (ومن مال إلى الدنيا طاش) عقله وتحير أمره، (والعاقل عن عيوبه به فتاش، والأحمق) الذي نقص جوهر عقله (يغدو ويروح في لاش) ، أي: في لا شيء، تقدم ذلك في كتاب ذم الدنيا. (وقيل لرابعة) العدوية قدس سرها: (كيف حبك للرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ فقالت: إني والله أحبه حبا شديدا، ولكن حب الخالق شغلني عن حب المخلوقين.) وحكي عن أبي سعيد الخراز قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام فقلت: يا رسول الله اعذرني، فإن محبة الله شغلتني عن محبتك. فقال: يا مبارك، من أحب الله فقد أحبني. نقله القشيري، (وسئل موسى -عليه السلام- عن أفضل الأعمال فقال: الرضا عن الله) في أفعاله، (والحب له) لجلاله وكماله. (وقال أبو يزيد) البسطامي -رحمه الله تعالى-: (المحب لا يحب الدنيا ولا الآخرة) ، أي: لا يميل بقلبه إليهما (إنما يحب من مولاه مولاه) ، أي: ذاته، ويقصر نظره عليه. (وقال الشبلي) -رحمه الله تعالى-: (الحب دهش في لذة، وحيرة في تعظيم.) أشار بالجملة الأولى إلى أوائل الحب، فإن المحب في أوائل أمره إذا لاحظ جمال المحبوب يدهش ويغيب عن عقله، فإذا لحقته العناية أصحاه من دهشة فيلتذ بما قام به من الحال، وأشار بالجملة الثانية إلى كمال مقام الحب، وذلك عند تصاغره بالعبودية المحضة؛ إجلالا لعظمته، ومهابة لكبريائه، لا يفارقه في هذا المقام الحيرة. ولفظ القشيري في الرسالة: سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: المحبة لذة، ومواضع الحقيقة دهش. انتهى .

والمعنى أن المحبة في أول أمرها لذة يلتذ بها المحب، فإذا غلب على قلبه شغله بالله وغمره دهش (وقيل: المحبة أن تمحو أثرك عنك حتى لا يبقى فيها شيء راجع منك إليك) ويقرب منه قول أبي عبد الله القرشي: حقيقة المحبة أن تهب كلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منك شيء. وقول الشبلي: سميت المحبة محبة لأنها تمحو من القلب ما سوى المحبوب نقلهما القشيري. (وقيل: إن المحبة قرب القلب من المحبوب بالاستبشار والفرح) ولفظ القوت: قال الجنيد: المحبة نفسها قرب القلب من الله بالاستنارة والفرح. انتهى .

والمراد بالقرب قرب مكانة لا قرب مكان، وأشار بالاستبشار والفرح إلى الأنس الذي تنتجه المحبة، فإن المستأنس بالقرب يستبشر ويفرح؛ لأنه غير متطلع إلى فائت، وقد يكون إشارة إلى مقام الصفاء الذي هو إحدى منازلات العبد في سلوكه، وهو أن يكون القلب خاليا عن سائر الكدورات؛ فحينئذ يجد الرب تعالى القلب محلا قابلا للقرب، فيملؤه من أنواره ومعرفته وتحفه، فعند ذلك يميل القلب إلى القرب من المحبوب بكمال المعرفة، وينقض عليه انقضاض الطائر الجاف الكبد من عدم الماء إذا رآه في السماء وهو بغاية الفرح والاستبشار، فعلى هذا يعلم يقينا أن محبة العبد لله تعالى هي الميل إليه بالفرح والابتهاج، كما قال الجنيد: المحبة هي الميل بلا نيل. وأي نيل أشرف [ ص: 683 ] من الميل إليه والقرب منه؟ (وقال) إبراهيم بن أحمد (الخواص) -رحمه الله تعالى-: (المحبة محو الإرادات، وإحراق) وفي نسخة: واحتراق (جميع الصفات والحاجات) ويقرب منه قول من قال: هي محو المحب بصفاته وإثبات المحبوب بذاته. وقول الحلاج: حقيقة المحبة قيامك مع محبوبك بخلع أوصافك. وقول أبي يعقوب السوسي: حقيقة المحبة أن ينسى العبد حظه من الله، وينسى حوائجه إليه. كما في الرسالة، (وسئل) أبو محمد (سهل) التستري -رحمه الله تعالى- (عن المحبة فقال:) هي (عطف الله تعالى بقلب عبد لمشاهدته بعد الفهم للمراد منه) والمشاهدة تكون بالقلب، كما أن الرؤية تكون بالبصر، فإذا عطفه كذلك لا يميل لغيره أبدا، وهذا هو معنى قوله تعالى: يحبهم (وقيل: معاملة المحب على أربع منازل؛ على المحبة، والهيبة، والحياء، والتعظيم. وأفضلها التعظيم والمحبة؛ لأن هاتين تبقيان مع أهل الجنة في الجنة، ويرفع عنهم غيرها) وذلك؛ لأن أول التوحيد عند المحبين أن يعبدوا الله تعالى لوجهه حبا له، لا خوفا من ناره، ولا رغبة في جنته، فيكون الحبيب مرادهم، والوصول إليه مناهم، ثم يرجع لهم على التعظيم والإجلال فلا يرون نفوسهم تصلح للقائه، فتخنس القلوب، وترجع بالهيبة والرهبة، فيعبدون الله -عز وجل- ويبقى الشوق والأنس. وسئل سهل: الحب أفضل أو الحياء؟ فقال: الحب الذي يورث من الخوف الحياء منه أفضل، والحب الذي يورث منه الحياء أفضل من الحياء، وهو الشوق (وقال هرم بن حيان) العبدي -رضي الله عنه- له صحبة، ويعد من كبار التابعين: (المؤمن إذا عرف ربه -عز وجل- أحبه) فإن المحبة ثمرة المعرفة (وإذا أحبه أقبل إليه) بالعطف والرحمة، (وإذا وجد حلاوة الإقبال إليه لم ينظر إلى الدنيا بعين الشهوة) ، أي: لم يمل قلبه إليها، (ولم ينظر إلى الآخرة بعين الفترة) أي: الكسل عن القيام بالخدمة، (وهي تحسره في الدنيا وتروحه في الآخرة) ، وقد تقدم هذا القول. (وقال عبد الله بن محمد) البصري (سمعت امرأة من المتعبدات تقول وهي باكية والدموع على خدها جارية: والله لقد سئمت من الحياة حتى لو وجدت الموت يباع لاشتريته؛ شوقا إلى الله تعالى، وحبا للقائه. قال: فقلت لها: فعلى ثقة أنت من عملك؟ قالت: لا، ولكن لحبي إياه وحسن ظني به، أفتراه يعذبني وأنا أحبه؟)

روى البيهقي في الشعب عن أبي عثمان الحيري قال: الشوق ثمرة الحب، ومن أحب الله اشتاق للقائه. وقال أيضا: بقدر ما يصل إلى قلب العبد من السرور بالله يشتاق إليه، وعلى قدر شوقه يخاف من بعده وطرده. وقولها: "أفتراه يعذبني وأنا أحبه" يستفاد من قوله تعالى: وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم (وأوحى الله إلى داود -عليه السلام-: لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم، ورفقي بهم، وشوقي إلى ترك معاصيهم، لماتوا شوقا إلي، وتقطعت أوصالهم من محبتي، يا داود، هذه إرادتي في المدبرين عني، فكيف إرادتي في المقبلين علي؟! يا داود، أحوج ما يكون العبد لي إذا استغنى عني، وأرحم ما أكون بعبدي إذا أدبر عني، وأجل ما يكون عندي إذا رجع إلي.) نقله القشيري في الرسالة مختصرا. (وقال أبو خالد) محمد بن عبد الله بن أحمد الزاهد الأصبهاني (الصفار) ، سكن نيسابور، وقيل: إنه لم يرفع رأسه إلى السماء نيفا وأربعين سنة، وصنف كتبا في الزهد، وروى عن أبي إسماعيل الترمذي، وعنه الحاكم أبو عبد الله، وأبو علي النيسابوري الحافظ، مات سنة 239، (لقي نبي من الأنبياء عابدا) من العباد (فقال: إنكم معاشر العباد تعملون على أمر لسنا معاشر الأنبياء نعمل عليه؛ أنتم تعملون على الخوف والرجاء، ونحن نعمل على المحبة والشوق) ولا يخفى أن العمل على المحبة والشوق أفضل من العمل على الرجاء والخوف؛ لرفعة مقام المحبة على غيره من المقامات. (وقال الشبلي) -رحمه الله تعالى-: (أوحى الله تعالى إلى داود -عليه السلام-: يا داود، ذكري للذاكرين) ؛ لأنه تعالى قال: فاذكروني أذكركم (وجنتي للمطيعين) فإن الجنة لمن أطاع، (وزيادتي للمشتاقين) إلي؛ أي: زيادة النعيم (وأنا خاصة للمحبين) الذين يعبدوني خاصة، لا لخوف من نار، ولا طمعا في جنة. (وأوحى الله تعالى [ ص: 684 ] إلى آدم -عليه السلام-: يا آدم، من أحب حبيبا صدق قوله، ومن أنس بحبيب رضي فعله، ومن اشتاق إليه جد في سيره.) (وكان) إبراهيم بن أحمد (الخواص) -رحمه الله تعالى- (يضرب على صدره ويقول: واشوقاه إلى من يراني ولا أراه. وقال الجنيد) رحمه الله تعالى: (بكى يونس -عليه السلام- حتى عمي، وقام حتى انحنى) ظهره، (وصلى حتى أقعد، وقال: وعزتك وجلالك، لو كان بيني وبينك بحر من نار لخضته إليك شوقا مني إليك.) وروى البيهقي في الشعب، عن عبد الله بن أبي عيسى قال: كان رجل من أهل البصرة يقال له ضيغم، تعبد قائما حتى أقعد، ثم تعبد قاعدا حتى استلقى، ثم تعبد وهو مستلق حتى أقحم، فلما أجهد قال: أجلسوني. فرفع بصره إلى السماء فقال: سبحانك! عجبا للخليقة كيف تحب أحدا سواك؟! (وعن علي بن أبي طالب) -رضي الله عنه- (قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن سنته فقال: المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والحب أساستي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة) بالله تعالى (كنزي، والحزن رفيقي، والعلم سلاحي، والصبر دوائي، والرضا) بالله تعالى (غنيمتي، والعجز فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوتي، والصدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلقي، وقرة عيني في الصلاة) . قال العراقي: ذكره القاضي عياض من حديث علي، ولم أجد له إسنادا. اهـ .

قلت: وسئل عنه الحافظ بن حجر في فتاويه فقال: لا أصل له .




الخدمات العلمية