الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          وأما الترجيحات العائدة إلى المدلول :

          الأول منها : أن يكون حكم أحدهما الحظر والآخر الإباحة ، وهذا مما اختلف فيه فذهب الأكثر كأصحابنا وأحمد بن حنبل والكرخي والرازي من أصحاب أبي حنيفة إلى أن الحاظر أولى .

          وذهب أبو هاشم وعيسى بن أبان إلى التساوي والتساقط ، والوجه في ترجيح ما مقتضاه الحظر أن ملابسة الحرام موجبة للمأثم بخلاف المباح ، فكان أولى بالاحتياط .

          ولهذا فإنه لو اجتمع في العين الواحدة حظر وإباحة كالمتولد بين ما يؤكل وما لا يؤكل قدم التحريم على الإباحة ، وكذلك إذا طلق بعض نسائه بعينها ثم أنسيها حرم وطء الجميع تقديما للحرمة على الإباحة ، وإليه الإشارة بقوله - عليه السلام - : " ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال " [1] وقال - عليه السلام - : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " [2] غير أنه قد يمكن ترجيح ما مقتضاه [ ص: 260 ] الإباحة من جهة أخرى ، وهي أنا لو عملنا بما مقتضاه التحريم لزم منه فوات مقصود الإباحة من الترك مطلقا ، ولو عملنا بما مقتضاه الإباحة فقد لا يلزم منه فوات مقصود الحظر ؛ لأن الغالب أنه إذا كان حراما فلا بد وأن تكون المفسدة ظاهرة ، وعند ذلك فالغالب أن المكلف يكون عالما بها وقادرا على دفعها ؛ لعلمه بعدم لزوم المحذور من ترك المباح ، ولأن المباح مستفاد من التخيير قطعا بخلاف استفادة الحرمة من النهي لتردده بين الحرمة والكراهة ، فكان أولى .

          وعلى هذا فلا يخفى وجه الترجيح بين ما مقتضاه الحرمة وما مقتضاه الندب .

          الثاني : أن يكون مدلول أحدهما الحظر والآخر الوجوب ، فما مقتضاه التحريم أولى لوجهين :

          الأول : هو أن الغالب من الحرمة إنما هو دفع مفسدة ملازمة للفعل أو تقليلها ، وفي الوجوب تحصيل مصلحة ملازمة للفعل ، أو تكميلها ، واهتمام الشارع والعقلاء بدفع المفاسد أتم من اهتمامهم بتحصيل المصالح ، ولهذا فإن من أراد فعلا لتحصيل مصلحة ، ينفر عنه إذا عارضه في نظرة لزوم مفسدة مساوية للمصلحة ، كمن رام تحصيل درهم على وجه يلزم منه فوات مثله ، وإذا كان ما هو المقصود من التحريم أشد وآكد منه في الواجب كانت المحافظة عليه أولى .

          ولهذا كان ما شرعت العقوبات فيه من فعل المحرمات أكثر من ترك الواجبات وأشد كالرجم المشروع في زنا المحصن .

          الوجه الثاني : أن إفضاء الحرمة إلى مقصودها أتم من إفضاء الوجوب إلى مقصوده ، فكانت المحافظة عليه أولى ، وذلك لأن مقصود الحرمة يتأتى بالترك وذلك كاف مع القصد له ، أو مع الغفلة عنه ، ولا كذلك فعل الواجب .

          وأيضا فإن ترك الواجب وفعل المحرم إذا تساويا في داعية الطبع إليهما فالترك يكون أيسر وأسهل من الفعل لتضمن الفعل مشقة الحركة وعدم المشقة في الترك ، وما يكون حصول مقصوده أوقع يكون أولى بالمحافظة عليه .

          [3] الثالث : أن يكون حكم أحدهما الحرمة والآخر الكراهة ، فالحظر أولى لمساواته الكراهة في طلب الترك وزيادته عليه بما يدل على اللوم عند الفعل ، ولأن المقصود [ ص: 261 ] منهما إنما هو الترك لما يلزمه من دفع المفسدة الملازمة للفعل ، والحرمة أوفى لتحصيل ذلك المقصود فكانت أولى بالمحافظة .

          وأيضا فإن العمل بالمحرم لا يلزم منه إبطال دلالة المقتضي للكراهة ، وهو طلب الترك والعمل بالمقتضي للكراهة مما يجوز معه الفعل ، وفيه إبطال دلالة المحرم .

          ولا يخفى أن العمل بما لا يفضي إلى الإبطال يكون أولى ، وبما حققناه في ترجيح المحرم على المقتضي للكراهة يكون ترجيح الموجب على المقتضي للندب .

          الرابع : أن يكون حكم أحدهما إثباتا والآخر نفيا ، وذلك كخبر بلال بأن النبي - عليه السلام - دخل البيت وصلى [4] وخبر أسامة أنه دخل ولم يصل [5] فالنافي مرجح على المثبت خلافا للقاضي عبد الجبار في قوله : " إنهما سواء " ، والمثبت وإن كان مترجحا على النافي لاشتماله على زيادة علم غير أن النافي لو قدرنا تقدمه على المثبت كانت فائدته التأكيد ، ولو قدرنا تأخره كانت فائدته التأسيس ، وفائدة التأسيس أولى لما سبق تقريره فكان القضاء بتأخيره أولى .

          فإن قيل : إلا أنه يلزم من تأخره مخالفة الدليل المثبت ، ورفع حكمه دون تقدمه .

          قلنا : هو معارض بمثله ، فإنا لو قدرنا تقدم النافي فالمثبت بعده يكون نافيا لحكمه ورافعا له .

          فإن قيل : المثبت وإن كان رافعا لحكم النافي على تقدير تأخره عنه ، فرافع لما فائدته التأكيد ، ولو قدرنا تأخر النافي كان مبطلا لما فائدته التأسيس ، فكان فرض تأخر المثبت أولى .

          [ ص: 262 ] قلنا : إلا أنه وإن كانت فائدة النافي التأكيد على تقدير تقدمه فالمثبت يكون رافعا لحكم تأسيسي ، وهو الباقي على الحال الأصلي ، وزيادة ما حصل من النافي من التأكيد ، ولا كذلك ما لو كان النافي متأخرا فإنه لا يرفع غير التأسيس ، وما لا يفضي إلى رفع التأسيس مع التأكيد يكون أولى مما يفضي إلى رفع الأمرين معا ، وما يقال من أن المثبت مفيد لما هو حكم شرعي بالاتفاق ، والنافي غير مجمع على إفادته لحكم شرعي ، والغالب من الشارع أنه لا يتولى غير الشرعي ، فمع أنه غير سديد من جهة أن الحكم الشرعي غير مقصود لذاته ، وإنما هو مقصود لحكمته ؛ لكونه وسيلة إليها ، وحكمة الإثبات وإن كانت مقصودة فكذلك حكمة النفي ، فهو معارض من جهة أن الغالب من الشارع على ما هو المألوف منه ، إنما هو التقرير لا التغيير ، وعلى هذا فالحكم للنفي الأصلي يكون أولى من المغير .

          الخامس : أن يكون حكم أحدهما معقولا والآخر غير معقول ، فما حكمه غير معقول ، وإن كان الثواب بتلقيه أكثر لزيادة مشقته كما نطق به الحديث [6] إلا أن مقصود الشارع بشرع ما هو معقول أتم مما ليس بمعقول ؛ نظرا إلى سهولة الانقياد وسرعة القبول ، وما شرعه أفضى إلى تحصيل مقصود الشرع يكون أولى ؛ ولهذا كان شرع المعقول أغلب من شرع غير المعقول ، حتى إنه قد قيل : إنه لا حكم إلا وهو معقول حتى في ضرب الدية على العاقلة ونحوه مما ظن أنه غير معقول ، ولأن ما يتعلق بالمعقول من الفائدة بالنظر إلى محل النص بالتعدية والإلحاق أكثر منه في غير المعقول ، فكان أولى .

          وما كانت جهة تعقله أقوى كما يأتي وجه التفصيل فيه في العلل ، فهو أولى .

          السادس : أن يكون أحدهما مشتملا على زيادة لا وجود لها في الآخر ، كموجب الجلد مع الموجب للجلد والتغريب ، فالموجب للزيادة يكون أولى ؛ لأن العمل بالزيادة غير موجب لإبطال منطوق الآخر فيما دل عليه من وجوب الجلد وإجزائه عن نفسه ، والعمل بالموجب للجلد فقط موجب لإبطال المنطوق في الدلالة على وجوب الزيادة ، وما لا يفضي إلى إبطال حكم الدليل أولى مما يفضي إلى الإبطال ، ولأن دلالة الموجب للجلد على نفي الزيادة غير مأخوذة من منطوق اللفظ ، ووجوب [ ص: 263 ] الزيادة مأخوذ من منطوق اللفظ ، ومخالفة ما ليس بمنطوق بالمنطوق أولى لما تقدم .

          السابع : أن يكون موجب أحدهما الجلد والآخر الدرء ، فالدارئ يكون أولى نظرا إلى ما حققناه في ترجيح ما حكمه النفي على ما حكمه الإثبات ، ولأن الخطأ في نفي العقوبة أولى من الخطإ في تحقيقها على ما قال - عليه السلام - : " لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة " [7] ، ولأن ما يعترض الحد من المبطلات أكثر مما يعترض الدرء ، فكان أولى لبعده عن الخلل وقربه إلى المقصود ، ولأنه على خلاف الدليل النافي للحد والعقوبة .

          الثامن : أن يكون حكم أحدهما وقوع الطلاق أو العتق ، وحكم الآخر نفيه .

          قال الكرخي : ما حكمه الوقوع أولى لأنه الدليل النافي لملك البضع وملك اليمين ، والنافي لهما على خلافه ، ويمكن أن يقال : بل النافي لهما أولى لأنه على وفق الدليل المقتضي لصحة النكاح وإثبات ملك اليمين المترجح على النفي له .

          التاسع : أن يكون حكم أحدهما تكليفيا وحكم الآخر وضعيا ، فالتكليفي وإن اشتمل على زيادة الثواب المرتبط بالتكليف وكان لأجله راجحا ، فالوضعي من جهة أنه لا يتوقف على ما يتوقف عليه الحكم التكليفي من أهلية المخاطب وفهمه ، وتمكنه من الفعل يكون مترجحا .

          العاشر : أن يكون حكم أحدهما أخف من الآخر ، فقد قيل : إن الأخف أولى ؛ لأن الشريعة مبناها على التخفيف على ما قال الله تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ، وقال تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ، وقال - عليه السلام - : " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " [8] ، وقيل : إن الأثقل أولى نظرا إلى الشرعية [ ص: 264 ] إنما يقصد بها مصالح المكلفين ، والمصلحة في الفعل الأشق أعظم منها في الفعل الأخف على ما قال - عليه السلام - : " ثوابك على قدر نصبك " [9] ، ولأن الغالب على الظن إنما هو تأخره عن الأخف ؛ نظرا إلى المألوف من أحوال العقلاء ، فإن من قصد تحصيل مقصود بفعل من الأفعال ولم يحصل به لا يقصد تحصيله بما هو أخف منه ، بل بما هو أعلى منه ، فبتقدير تقدم الأخف على الأثقل يكون موافقا لنظر أهل العرف فكان أولى ، ولأن زيادة ثقله تدل على تأكد المقصود منه على مقصود الأخف ، فالمحافظة عليه تكون أولى .

          الحادي عشر : أن يكون كل واحد من الخبرين خبرا واحدا إلا أن حكم أحدهما مما تعم به البلوى بخلاف حكم الآخر ، فما لا تعم به البلوى أولى لكونه أبعد عن الكذب من جهة أن تفرد الواحد بنقل ما تعم به البلوى مع توفر الدواعي على نقله أقرب إلى الكذب ، كما تقرر قبل . [10] ، ولهذا كان مختلفا فيه ومتفقا على مقابله .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية