الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          وأما الترجيحات العائدة إلى أمر خارج :

          الأول منها : أن يكون أحد الدليلين موافقا لدليل آخر من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس أو عقل أو حس ، والآخر على خلافه ، فما هو على وفق الدليل الخارج أولى لتأكد غلبة الظن بقصد مدلوله ، ولأن العمل به وإن أفضى إلى مخالفة مقابله وهو دليل واحد فالعمل بمقابله يلزم منه مخالفة دليلين ، والعمل بما يلزم معه مخالفة دليل واحد أولى مما يلزم منه مخالفة دليلين .

          الثاني : أن يكون أحدهما قد عمل بمقتضاه علماء المدينة أو الأئمة الأربعة أو بعض الأمة بخلاف الآخر ، فما عمل به يكون أولى ، أما ما عمل به أهل المدينة فلأنهم أعرف بالتنزيل وأخبر بمواقع الوحي والتأويل ، وكذلك الأئمة والخلفاء الراشدون لحث النبي - عليه السلام - على متابعتهم والاقتداء بهم على ما سبق تعريفه ، وذلك يغلب على الظن قوته في الدلالة وسلامته عن المعارض .

          وعلى هذا أيضا ما عمل بمقتضاه بعض الأمة يكون أغلب على الظن ، فكان أولى .

          [ ص: 265 ] وفي معنى هذا أن يعتضد كل واحد منهما بدليل ، غير أن ما عضد أحدهما راجح على ما عضد الآخر ، أو أن يعمل بكل واحد منهما بعض الأمة ، غير أن من عمل بأحدهما أعرف بمواقع الوحي والتنزيل ، فيكون أولى .

          الثالث : أن يكون كل واحد منهما مؤولا إلا أن دليل التأويل في أحدهما أرجح من دليل التأويل في الآخر ، فهو أولى لكونه أغلب على الظن .

          الرابع : أن يكون أحدهما دالا على الحكم والعلة والآخر على الحكم دون العلة ، فما يدل على العلة يكون أولى لقربه إلى المقصود بسبب سرعة الانقياد وسهولة القبول ، ولدلالته على الحكم من جهة لفظه ، ومن جهة دلالته عليه بواسطة دلالته على العلة ، وما دل على الحكم بجهتين يكون أولى ، ولأن العمل به يلزمه مخالفة ما قابله من جهة واحدة ، والعمل بالمقابل يلزم منه مخالفة الدليل الآخر على الحكم من جهتين فكان أولى ، وربما رجح ما لم يدل على العلة من جهة أن المشقة في قبوله أشد والثواب عليه أعظم ، إلا أنه مرجوح بالنظر إلى مقصود التعقل ، ولذلك كان هو الأغلب .

          الخامس : أن يدل كل واحد منهما على الحكم والعلة إلا أن دلالة أحدهما على العلية أقوى من دلالة الآخر عليها ، كما بيناه فيما تقدم ، فالأقوى يكون أولى لكونه أغلب على الظن .

          السادس : أن يكونا عامين إلا أن أحدهما ورد على سبب خاص بخلاف الآخر ، وعند ذلك فتعارضهما إما أن يكون بالنسبة إلى ذلك السبب الخاص أو بالنسبة إلى غيره ، فإن كان الأول : فالوارد على ذلك السبب يكون أولى ؛ لكونه أمر به ، ولأن محذور المخالفة فيه نظرا إلى أن تأخير البيان عما دعت الحاجة إليه يكون أتم من المحذور اللازم من المخالفة في الآخر ؛ لكونه غير وارد فيها .

          وإن كان الثاني : فالعام المطلق يكون أولى ؛ لأن عمومه أقوى من عموم مقابله : لاستوائهما في صيغة العموم وغلبة الظن بتخصيص ما ورد على الواقعة بها ؛ نظرا إلى بيان ما دعت الحاجة إليه ، وإلى أن الأصل إنما هو مطابقة ما ورد في معرض البيان لما مست إليه الحاجة ، ولأن ما ورد على السبب الخاص مختلف في تعميمه عند القائلين بالعموم بخلاف مقابله ، وعلى هذا فمحذور المخالفة في العام المطلق يكون أشد .

          [ ص: 266 ] السابع : أن يكون أحدهما قد وردت به المخاطبة على سبيل الإخبار بالوجوب ، أو التحريم ، أو غيره ، كما في قوله تعالى : ( والذين يظاهرون منكم من نسائهم ) أو في معرض الشرط والجزاء كما في قوله تعالى : ( ومن دخله كان آمنا ) . والآخر وردت المخاطبة به شفاها كما في قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ) فإن تقابلا في حق من وردت المخاطبة إليه شفاها ، فخطاب المشافهة أولى ، وإن كان ذلك بالنظر إلى غير من وردت المخاطبة إليه شفاها كان الآخر أولى ؛ لما حققناه في معارضة العام المطلق ، والوارد على السبب المعين ، ولأن الخطاب شفاها إنما يكون للحاضر من الموجودين ، وتعميمه بالنسبة إلى غيرهم إنما يكون بالنظر إلى دليل آخر ، إما من إجماع الأمة على أنه لا تفرقة ، أو من قوله - عليه السلام - : " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " [1] .

          الثامن : أن يكون أحدهما مما يجوز تطرق النسخ إليه ، أو قد اختلف في تطرق النسخ إليه بخلاف الآخر ، فالذي لا يقبل النسخ يكون أولى لقلة تطرق الأسباب الموهية إليه .

          التاسع : أن يكونا عامين إلا أن أحدهما قد اتفق على العمل به في صورة بخلاف الآخر ، فما اتفق على العمل به وإن كان قد يغلب على الظن زيادة اعتباره إلا أن العمل بما لم يعمل به في صورة متفق عليها أولى ؛ إذ العمل به مما يفضي إلى تعطيل الآخر لكونه قد عمل به في الجملة ، والعمل بما عمل إلى تعطيل ما لم يعمل به ، وما يفضي إلى التأويل أولى مما يفضي إلى التعطيل وما عمل به في الصورة المتفق عليها ، وإن لزم أن يكون فيها راجحا على العام المقابل ، إلا أنه يحتمل أن يكون الترجيح له لأمر خارج لا وجود له في محل النزاع ، وهو وإن كان المرجح الخارج بعيد الوجود لكن يجب اعتقاد وجوده نفيا لإهمال العام الآخر .

          فإن قيل : لو كان له مرجح من خارج لوقفنا عليه بعد البحث التام ، وقد بحثنا فلم نجد شيئا من ذلك ، واحتمال مخالفة السبر أيضا بعيد فهو معارض بمثله ، فإنه لو كان رجحانه لمعنى يعود إلى نفسه لوقفنا عليه بعد البحث ، وقد بحثنا فلم نجده ، وعند ذلك فيتقاوم الكلامان ، وقد يسلم لنا ما ذكرناه أولا .

          العاشر : أن يكون أحدهما قد قصد به بيان الحكم المختلف فيه بخلاف الآخر ، فالذي قصد به البيان للحكم يكون أولى ؛ لأنه يكون أمس بالمقصود ، [ ص: 267 ] وكما في قوله تعالى : ( وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ) فإنه قصد به بيان تحريم الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين ، فإنه مقدم على قوله تعالى : ( أو ما ملكت أيمانكم ) حيث لم يقصد به بيان الجمع .

          الحادي عشر : أن يكون أحدهما أقرب إلى الاحتياط وبراءة الذمة بخلاف الآخر ، فالأقرب إلى الاحتياط يكون مقدما لكونه أقرب إلى تحصيل المصلحة ودفع المضرة .

          الثاني عشر : أن يكون أحدهما يستلزم نقص الصحابي كحديث القهقهة في الصلاة بخلاف الآخر ، فالذي لا يستلزم ذلك أولى لكونه أقرب إلى الظاهر الموافق لحال الصحابي ، ووصف الله له بالعدالة على ما قال تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) أي : عدولا .

          الثالث عشر : أن يقترن بأحد الخبرين تفسير الراوي بفعله أو قوله ، فإنه يكون مرجحا على ما ليس كذلك ؛ لأن الراوي للخبر يكون أعرف وأعلم بما رواه .

          الرابع عشر : أن يذكر أحد الراويين سبب ورود ذلك النص بخلاف الآخر ، فالذاكر للسبب أولى ؛ لأن ذلك يدل على زيادة اهتمامه بما رواه .

          الخامس عشر : أن يكون قد اقترن بأحد الخبرين ما يدل على تأخيره عن الآخر كالخبر الذي ظهر بعد استظهار النبي - عليه السلام - وقوة شوكته بخلاف الآخر ، فالظاهر بعد قوة شوكة النبي - عليه السلام - أولى ؛ لأن احتمال ظهور مقابله قبل قوة الشوكة أكثر من احتمال وقوع ما ظهر بعد قوة الشوكة ، فكان تأخيره أغلب على الظن ، فكان أولى .

          وفي معناه أن يكون أحد الراويين متأخر الإسلام عن الآخر ، فالغالب أن ما رواه عن النبي - عليه السلام - بعد إسلامه فروايته أولى ؛ لأن رواية الآخر يحتمل أن تكون قبل إسلام المتأخر .

          ويحتمل أن تكون بعد إسلامه ، فكان تأخير ما رواه متأخر الإسلام أغلب على الظن .

          وفي معناه أن يعلم أن موت متقدم الإسلام كان متقدما على إسلام المتأخر ، وكذلك إذا علمنا أن غالب رواية أحد الراويين قبل الغالب من رواية الآخر فروايته تكون مرجوحة ؛ لأن الغالب تقدم ما رواه [ ص: 268 ] وكذلك إذا كانت رواية أحدهما مؤرخة بتاريخ مضيق دون الآخر ، فاحتمال تقدم غير المؤرخة يكون أغلب ، وكذلك إذا كان أحد الخبرين يدل على التخفيف والآخر على التشديد ، فاحتمال تأخر التشديد أظهر ؛ لأن الغالب منه - عليه السلام - أنه ما كان يشدد إلا بحسب علو شأنه واستيلائه وقهره ، ولهذا أوجب العبادات شيئا فشيئا وحرم المحرمات شيئا فشيئا .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية