الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          القسم الثاني

          في التعارض الواقع بين معقولين

          والمعقولان : إما قياسان ، أو استدلالان ، أو قياس واستدلال :

          فإن كان التعارض بين قياسين فالترجيح بينهما قد يكون بما يعود إلى أصل القياس ، وقد يكون بما يعود إلى فرعه ، وقد يكون بما يعود إلى مدلوله ، وقد يكون بما يعود إلى أمر خارج .

          فأما ما يعود إلى الأصل : فمنه ما يعود إلى حكمه ، ومنه ما يعود إلى علته ، فأما ما يعود إلى حكم الأصل فترجيحات :

          الأول : أن يكون الحكم في أصل أحدهما قطعيا ، وفي الآخر ظنيا ، فما حكم أصله قطعي أولى ؛ لأن ما يتطرق إليه من الخلل بسبب حكم الأصل منفي ولا كذلك الآخر ، فكان أغلب على الظن ، وفي معنى هذا ما يكون الحكم في أصل أحدهما ممنوعا وفي الآخر غير الممنوع ، فغير الممنوع يكون أولى .

          الثاني : أن يكون حكم الأصل فيهما ظنيا ، غير أن الدليل المثبت لأحدهما أرجح من المثبت للآخر ، فيكون أولى .

          الثالث : أن يكون حكم الأصل في أحدهما مما اختلف في نسخه بخلاف الآخر ، فالذي لم يختلف في نسخه أولى لبعده عن الخلل .

          الرابع : أن يكون الحكم في أصل أحدهما غير معدول به عن سنن القياس ، كما ذكرناه فيما تقدم ، بخلاف الآخر ، فما لم يعدل به عن سنن القياس أولى ؛ لكونه أبعد عن التعبد وأقرب إلى المعقول وموافقة الدليل .

          [ ص: 269 ] الخامس : أن يكون حكم الأصل في أحدهما قد قام دليل خاص على وجوب تعليله وجواز القياس عليه ، ولا كذلك الآخر ، فما قام الدليل فيه على وجوب تعليله وجواز القياس عليه أولى ، وإن لم يكن ذلك شرطا في صحته كما سبق ؛ لما فيه من الأمن من غائلة التعبد والقصور على الأصل ، ولبعده عن الخلاف .

          السادس : أن يكون حكم أحد الأصلين مما اتفق القياسون على تعليله والآخر مختلف فيه ، فما اتفق على تعليله أولى ؛ إذ هو أبعد عن الالتباس وأغلب على الظن .

          السابع : أن يكون حكم أحد الأصلين قطعيا لكنه معدول به عن سنن القياس ، والآخر ظنيا لكنه غير معدول به عن سنن القياس ، فالظني الموافق لسنن القياس أولى لكونه موافقا للدليل وأبعد عن التعبد .

          الثامن : أن يكون حكم أحدهما في الأصل قطعيا إلا أنه لم يقم دليل خاص على وجوب تعليله ، وعلى جواز القياس عليه ، وحكم الآخر ظنيا إلا أنه قد قام الدليل على وجوب تعليله ، وعلى جواز القياس عليه فما حكمه قطعي أولى ؛ لأن ما يتطرق إليه من الخلل إنما هو بسبب قربه من احتمال التعبد والقصور على الأصل المعين ، وما يتطرق إلى الظني من الخلل فمن جهة أن يكون الأمر في نفسه خلاف ما ظهر ، واحتمال التعبد والقصور على ما ورد الشرع فيه بالحكم أبعد من احتمال ظن الظهور لما ليس بظاهر والترك للعمل بما هو ظاهر .

          التاسع : أن يكون حكم أصل أحدهما قطعيا إلا أنه لم يتفق على تعليله ، وحكم الآخر ظنيا إلا أنه متفق على تعليله ، فالظني المتفق على تعليله أولى ؛ لأن تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع إنما هو فرع تعقل العلة في الأصل ، وتحقق وجودها في الفرع واحتمال معرفة ذلك فيما هو متفق عليه أغلب ، واحتمال الخلل بالنظر إلى الحكم الظني وإن كان قائما ومأمونا في جانب الحكم القطعي ، إلا أن احتمال قطع القياس فيما لم يتفق على تعليله لعدم الاطلاع على ما هو المقصود من حكم الأصل أغلب من احتمال انقطاع القياس لخلل ملتحق بالظاهر الدال على حكم الأصل مع ظهور دليله وعدم الاطلاع عليه بعد البحث التام فيه .

          العاشر : أن يكون دليل ثبوت الحكم في أصل أحدهما أرجح من الآخر ، إلا أنه مختلف في نسخه بخلاف الآخر ، فما دليله راجح أولى لأن الأصل عدم النسخ ، وقول النسخ معارض بقول عدم النسخ ، فكان احتمال عدم النسخ أرجح .

          [ ص: 270 ] الحادي عشر : أن يكون دليل ثبوت الحكم في أحدهما راجحا على دليل حكم أصل الآخر ، إلا أنه معدول به عن سنن القياس ، والقاعدة العامة بخلاف الآخر ، فما لم يعدل به عن القاعدة أولى ؛ لأنه يلزم من العمل به الجري على وفق القاعدة العامة التي ورد الحكم في القياس الآخر على خلافها ، غير أنه يلزم منه إهمال جانب الترجيح في الآخر ، وما يلزم من العمل بالآخر فإنما هو اعتبار ظهور الترجيح ، لكن مع مخالفة القاعدة المتفق عليها ، واحتمال مخالفة القواعد العامة المتفق عليها أبعد من احتمال مخالفة الشذوذ من ظواهر الأدلة ، كيف وأن العمل بما دليل ثبوت حكم أصله ظني محافظة [1] على أصل الدليل الظني والقاعدة العامة ، والعمل [2] بما ظهر الترجيح في دليل ثبوت حكمه فيه الموافقة ؛ لما ظهر من الترجيح ومخالفة القاعدة وأصل الدليل الآخر ، ولا يخفى أن العمل بما يلزم منه موافقة ظاهرين ، ومخالفة ظاهر واحد أولى من العكس .

          الثاني عشر : أن يكون دليل ثبوت حكم أصل أحدهما راجحا على دليل الآخر ، إلا أنه لم يقم دليل خاص على وجوب تعليله وعلى جواز القياس عليه بخلاف الآخر ، فما ظهر الترجيح في دليله أولى لما ذكرناه فيما إذا كان الحكم قطعيا .

          الثالث عشر : أن يكون دليل ثبوت حكم أصل أحدهما أرجح من دليل الآخر ، إلا أنه غير متفق على تعليله بخلاف الآخر ، فما اتفق على تعليله أولى ؛ لما ذكرناه فيما إذا كان حكم الأصل في أحدهما قطعيا والآخر ظنيا .

          الرابع عشر : أن يكون حكم أصل أحدهما مما اتفق على عدم نسخه إلا أنه معدول به عن القاعدة العامة بخلاف الآخر ، فما لم يعدل به عن القاعدة أولى لما سبق تحقيقه .

          الخامس عشر : أن يكون حكم أصل أحدهما غير معدول به عن القاعدة العامة ، إلا أنه لم يقم دليل خاص على وجوب تعليله وجواز القياس عليه بخلاف الآخر ، [ ص: 171 ] فما هو على وفق القاعدة العامة أولى ؛ لأن العمل به عمل بأغلب ما يرد به الشرع ، والعمل بمقابله بالعكس ، ولأن أكثر من قال باشتراط كون الحكم في الأصل غير معدول به عن القاعدة العامة ، خالف في اشتراط قيام الدليل على وجوب الحكم وجواز القياس عليه ، ولم يشترط غير الشذوذ ، فكونه غير معدول به عن القاعدة العامة أمس بالقياس .

          السادس عشر : أن يكون حكم أصل أحدهما غير معدول به عن القاعدة العامة ، إلا أنه لم يتفق على تعليله والآخر بعكسه ، فما اتفق على تعليله أولى ؛ لأن كل واحد من القياسين وإن كان مختلفا فيه إلا أن احتمال وقوع التعبد في القياس يبطله قطعا ، ومخالفة القاعدة العامة غير مبطلة للقياس قطعا ، وما يبطل القياس قطعا بتقدير وقوعه يكون مرجوحا بالنسبة إلى ما لا يبطله قطعا .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية