بيان واختلافه في القوة والضعف درجات الخوف
اعلم أن الخوف محمود وربما يظن أن كل ما هو خوف محمود فكل ما كان أقوى وأكثر كان أحمد وهو غلط ، بل الخوف سوط الله يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل ، لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالى والأصلح للبهيمة أن لا تخلو عن سوط وكذا الصبي ولكن ذلك لا يدل على أن المبالغة في الضرب محمودة وكذلك الخوف له قصور وله إفراط وله اعتدال والمحمود هو الاعتدال والوسط فأما القاصر منه فهو الذي يجري مجرى رقة النساء ، يخطر بالبال عند سماع آية من القرآن فيورث البكاء ، وتفيض الدموع ، وكذلك عند مشاهدة سبب هائل فإذا غاب ذلك السبب عن الحس ورجع القلب إلى الغفلة فهذا خوف قاصر ، قليل الجدوى ، ضعيف النفع ، وهو كالقضيب الضعيف الذي تضرب به دابة قوية لا يؤلمها ألما مبرحا ، فلا يسوقها إلى المقصد ، ولا يصلح لرياضتها ، وهكذا خوف الناس كلهم إلا العارفين والعلماء ولست أعني بالعلماء المترسمين برسوم العلماء ، والمتسمين بأسمائهم ، فإنهم أبعد الناس عن الخوف بل أعني العلماء بالله وبأيامه وأفعاله ، وذلك مما قد عز وجوده الآن ؛ ولذلك قال إذا قيل لك : هل تخاف الله ؟ فاسكت ، فإنك إن قلت : لا ، كفرت ، وإن قلت : نعم كذبت وأشار به إلى أن الفضيل بن عياض ويقيدها بالطاعات ، وما لم يؤثر في الجوارح فهو حديث نفس وحركة خاطر لا يستحق أن يسمى خوفا ، الخوف هو الذي يكف الجوارح عن المعاصي ،
وأما المفرط فإنه الذي يقوى ويجاوز حد الاعتدال حتى يخرج إلى اليأس والقنوط ، وهو مذموم أيضا لأنه يمنع من العمل وقد يخرج الخوف أيضا إلى المرض والضعف وإلى الوله والدهشة وزوال العقل فالمراد من الخوف ما هو المراد من السوط وهو الحمل على العمل ، ولولاه لما كان الخوف كمالا لأنه بالحقيقة نقصان لأن منشأه الجهل والعجز ،
أما الجهل فإنه ليس يدري عاقبة أمره ، ولو عرف لم يكن خائفا ؛ لأن المخوف هو الذي يتردد فيه ،
وأما العجز فهو أنه متعرض لمحذور ، لا يقدر على دفعه ، فإذا هو محمود بالإضافة إلى نقص الآدمي ، وإنما المحمود في نفسه وذاته هو العلم والقدرة وكل ما يجوز أن يوصف الله تعالى به وما لا يجوز وصف الله تعالى به فليس بكمال في ذاته ، وإنما يصير محمودا ، بالإضافة إلى نقص هو أعظم منه كما يكون احتمال ألم الدواء محمودا لأنه أهون من ألم المرض والموت ، فما يخرج إلى القنوط فهو مذموم وقد يخرج الخوف أيضا إلى المرض والضعف وإلى الوله والدهشة ، وزوال العقل ، وقد يخرج إلى الموت ، وكل ذلك مذموم ، وهو كالضرب الذي يقتل الصبي ، والسوط الذي يهلك الدابة أو يمرضها أو يكسر عضوا من أعضائها ، وإنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسباب الرجاء وأكثر منها ليعالج به صدمة الخوف المفرط المفضي إلى القنوط أو أحد هذه الأمور فكل ما يراد لأمر فالمحمود منه ما يفضي إلى المراد المقصود منه وما يقصر عنه أو يجاوزه فهو مذموم .