بيان الدواء الذي به يستجلب حال الخوف .
اعلم أن ما ذكرناه في حال الصبر ، وشرحناه في كتاب الصبر والشكر ، هو كاف في هذا الغرض ؛ لأن الصبر لا يمكن إلا بعد حصول الخوف والرجاء ؛ لأن أول مقامات الدين باليوم والآخر والجنة والنار وهذا اليقين بالضرورة يهيج الخوف من النار والرجاء للجنة ، اليقين الذي هو عبارة عن قوة الإيمان بالله تعالى ، فإن الجنة قد حفت بالمكاره : فلا يصبر على تحملها إلا بقوة الرجاء ، والنار قد حفت بالشهوات : فلا يصبر على قمعها : إلا بقوة الخوف ؛ ولذلك قال والرجاء والخوف يقويان على الصبر ، كرم الله وجهه : . علي
من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات : ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات ثم يؤدي مقام الصبر المستفاد من الخوف والرجاء إلى مقام المجاهدة ، والتجرد لذكر الله ، تعالى والفكر فيه على الدوام : ويؤدي دوام الذكر إلى الأنس ودوام الفكر إلى كمال المعرفة ويؤدي كمال المعرفة والأنس إلى المحبة ويتبعها : مقام الرضا ، والتوكل ، وسائر المقامات فهذا هو الترتيب في سلوك منازل الدين وليس بعد أصل اليقين مقام سوى الخوف ، والرجاء ، ولا بعدهما مقام سوى الصبر ، وبه المجاهدة والتجرد لله ظاهرا وباطنا ، ولا مقام بعد المجاهدة لمن فتح له الطريق إلا الهداية والمعرفة ولا مقام بعد المعرفة إلا المحبة والأنس ، ومن ضرورة المحبة الرضا بفعل المحبوب والثقة بعنايته وهو التوكل ، فإذن فيما ذكرناه في علاج الصبر كفاية ، ولكنا نفرد الخوف بكلام جملي : فنقول : الخوف يحصل بطريقين مختلفين أحدهما أعلى من الآخر ومثاله أن الصبي إذا كان في بيت فدخل عليه سبع أو حية ربما كان لا يخاف ، وربما مد اليد إلى الحية ليأخذها ويلعب بها ، ولكن إذا كان معه أبوه وهو عاقل خاف من الحية وهرب منها .
فإذا نظر الصبي إلى أبيه وهو ترتعد فرائصه ، ويحتال في الهرب ، منها قام معه وغلب عليه الخوف ، ووافقه في الهرب ، فخوف الأب عن بصيرة ومعرفة بصفة الحية ، وسمها ، وخاصيتها ، وسطوة السبع ، وبطشه ، وقلة مبالاته .
وأما خوف الابن فإيمانه بمجرد التقليد لأنه يحسن الظن بأبيه ، ويعلم أنه لا يخاف إلا من سبب مخوف في نفسه ، فيعلم أن السبع مخوف ولا يعرف وجهه وإذا عرفت هذا المثال فاعلم أن الخوف من الله تعالى على مقامين : أحدهما الخوف من عذابه ، والثاني الخوف منه . فأما الخوف منه فهو خوف العلماء وأرباب القلوب العارفين من صفاته ما يقتضي الهيبة ، والخوف ، والحذر المطلعين على سر قوله تعالى : ويحذركم الله نفسه ، وقوله : عز وجل اتقوا الله حق تقاته ، وأما الأول فهو خوف عموم الخلق : وهو حاصل بأصل الإيمان بالجنة والنار ، وكونهما جزاءين على الطاعة والمعصية وضعفه بسبب الغفلة وسبب ضعف الإيمان ، وإنما تزول الغفلة بالتذكير والوعظ وملازمة الفكر في أهوال يوم القيامة ، وأصناف العذاب في الآخرة ، وتزول أيضا بالنظر إلى الخائفين ، ومجالستهم ، ومشاهدة أحوالهم فإن فاتت المشاهدة فالسماع : لا يخلو عن تأثير .