وحكي أن قوما وقفوا بعابد وهو يبكي فقالوا : ما الذي يبكيك يرحمك الله ؟ قال : قالوا : وما هي ؟ قال : روعة النداء بالعرض على الله عز وجل . فرحة يجدها الخائفون في قلوبهم
وكان الخواص يبكي ويقول في مناجاته : قد كبرت وضعف جسمي عن خدمتك فأعتقني .
وقال صالح المري قدم علينا ابن السماك مرة فقال أرني شيئا من بعض عجائب عبادكم فذهبت به إلى رجل في بعض الأحياء في خص له فاستأذنا عليه فإذا رجل يعمل خوصا فقرأت عليه إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون فشهق الرجل شهقة وخر مغشيا عليه ، فخرجنا من عنده وتركناه على حاله وذهبنا إلى آخر فدخلنا عليه فقرأت هذه الآية فشهق شهقة وخر مغشيا عليه فذهبنا واستأذنا على ثالث فقال ادخلوا ، إن لم تشغلونا عن ربنا فقرأت ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد فشهق شهقة فبدا الدم من منخريه ، وجعل يتشحط في دمه حتى يبس ، فتركناه على حاله وخرجنا فأدرته على ستة أنفس كل نخرج من عنده ونتركه مغشيا عليه ، ثم أتيت به إلى السابع فاستأذنا فإذا امرأة من داخل الخص تقول ادخلوا ، فدخلنا فإذا شيخ فان جالس في مصلاه فسلمنا عليه فلم يشعر بسلامنا فقلت : بصوت عال ألا إن للخلق غدا مقاما ، فقال الشيخ بين يدي من ويحك ، ثم بقي مبهوتا فاتحا فاه شاخصا بصره يصيح بصوت له ضعيف أوه أوه حتى انقطع ذلك الصوت فقالت امرأته اخرجوا فإنكم لا تنتفعون به الساعة ، فلما كان بعد ذلك سألت عن القوم فإذا ثلاثة قد أفاقوا وثلاثة قد لحقوا بالله تعالى
وأما الشيخ فإنه مكث ثلاثة أيام على حالته مبهوتا متحيرا لا يؤدي ، فرضنا فلما كان بعد ثلاث عقل .
وكان يزيد بن الأسود يرى أنه من الأبدال وكان قد حلف أن لا يضحك أبدا ولا ينام مضطجعا ولا يأكل سمنا أبدا فما رئي ضاحكا ولا مضطجعا ولا أكل سمنا حتى مات رحمه الله .
وقال الحجاج لسعيد بن جبير بلغني أنك لم تضحك قط ؟ فقال : كيف أضحك وجهنم قد سعرت والأغلال قد نصبت والزبانية قد أعدت ؟ .
وقال رجل يا أبا سعيد كيف أصبحت ؟ قال بخير ، قال : كيف حالك ؟ فتبسم الحسن وقال تسألني عن حالي ما ظنك بناس ركبوا سفينة حتى توسطوا البحر فانكسرت سفينتهم فتعلق كل إنسان منهم بخشبة ، على أي حال يكون ؟ قال الرجل : على حال شديدة .
قال الحسن : حالي أشد من حالهم
ودخلت مولاة لعمر بن عبد العزيز عليه فسلمت عليه ، ثم قامت إلى مسجد في بيته فصلت فيه ركعتين وغلبتها عيناها فرقدت فاستبكت في منامها ثم انتبهت فقالت : يا أمير المؤمنين ، إني والله رأيت عجبا ، قال : وما ؟ ذلك قالت : رأيت النار وهي تزفر على أهلها ثم جيء بالصراط ووضع على متنها فقال : هيه قالت : : فجيءبعبد الملك بن مروان فحمل عليه فما مضى عليه إلا يسير حتى انكفأ به الصراط فهوى إلى جهنم فقال عمر هيه قالت : ثم جيء بالوليد بن عبد الملك فحمل عليه فما مضى عليه إلا يسيرا حتى انكفأ به الصراط فهوى إلى جهنم فقال هيه ، قالت : ثم جيء عمر : بسليمان بن عبد الملك فما مضى عليه إلا يسيرا حتى انكفأ به الصراط فهوى ، كذلك فقال : هيه ، قالت : ثم جيء بك والله يا أمير المؤمنين فصاح عمر رحمة الله عليه صيحة خر مغشيا عليه ، فقامت إليه فجعلت تنادي في أذنه يا أمير المؤمنين ، إني رأيتك والله قد نجوت إني رأيتك والله قد نجوت قال : وهي تنادي وهو يصيح ويفحص برجليه . عمر
ويحكى أن أويسا القرني رحمه الله كان يحضر عند القاص فيبكي من كلامه فإذا ذكر النار صرخ ثم يقوم منطلقا فيتبعه الناس فيقولون : مجنون مجنون . أويس
وقال رضي الله عنه إن المؤمن لا يسكن روعه حتى يترك جسر جهنم وراءه . معاذ بن جبل
وكان طاوس يفرش له الفرش فيضطجع ويتقلى كما تتقلى الحبة في المقلى ثم يثب فيدرجه ويستقبل القبلة حتى الصباح ويقول طير ذكر جهنم نوم الخائفين .
وقال الحسن البصري رحمه الله يخرج من النار رجل بعد ألف عام يا ليتني كنت ذلك الرجل وإنما قال ذلك لخوفه من الخلود وسوء الخاتمة وروي أنه ما ضحك أربعين سنة قال وكنت إذا رأيته قاعدا كأنه أسير قد قدم لتضرب عنقه ، وإذا تكلم كأنه يعاين الآخرة فيخبر عن مشاهدتها فإذا سكت كأن النار تسعر بين عينيه .
وعوتب في شدة حزنه وخوفه فقال ما يؤمنني أن يكون الله تعالى قد اطلع في على بعض ما يكره فمقتني فقال اذهب فلا غفرت لك فأنا أعمل في غير معتمل
وعن ابن السماك قال : وعظت يوما في مجلس فقام شاب من القوم فقال يا أبا العباس ، لقد وعظت اليوم بكلمة ما كنا نبالي أن لا نسمع غيرها .
قلت : وما هي ؟ رحمك الله ، قال : قولك لقد طول الخلودين إما في الجنة أو في النار . قطع قلوب الخائفين
ثم غاب عني ففقدته في المجلس الآخر فلم أره فسألت عنه فأخبرت أنه مريض يعاد فأتيته أعوده فقلت : يا أخي ما الذي أرى بك ؟ فقال : يا أبا العباس ذلك من قولك لقد قطع قلوب الخائفين طول ، الخلودين إما في الجنة أو في النار ،
قال ثم مات رحمه الله فرأيته في المنام فقلت : يا أخي ما فعل الله بك ؟ قال : غفر لي ورحمني وأدخلني الجنة .
قلت : بماذا ؟ قال : بالكلمة .
فهذه والصالحين ونحن أجدر بالخوف منهم لكن ليس الخوف بكثرة الذنوب بل بصفاء القلوب وكمال المعرفة وإلا فليس أمننا لقلة ذنوبنا وكثرة طاعاتنا بل قادتنا شهوتنا وغلبت علينا شقوتنا ، وصدتنا عن ملاحظة أحوالنا غفلتنا وقسوتنا فلا قرب الرحيل ينبهنا ولا كثرة الذنوب تحركنا ولا مشاهدة مخاوف الأنبياء والأولياء والعلماء تخوفنا ، ولا خطر الخاتمة يزعجنا فنسأل الله تعالى أن يتدارك بفضله وجوده أحوالنا فيصلحنا إن كان تحريك اللسان بمجرد السؤال دون الاستعداد ينفعنا . أحوال الخائفين
ومن العجائب أنا إذا أردنا المال في الدنيا زرعنا وغرسنا واتجرنا وركبنا البحار والبراري وخاطرنا .
وإن أردنا طلب رتبة العلم فقهنا وتعبنا في حفظه وتكراره وسهرنا ونجتهد في طلب أرزاقنا ولا نثق بضمان الله لنا ولا نجلس في بيوتنا فنقول : اللهم ارزقنا ثم إذا طمعت أعيننا نحو الملك الدائم المقيم قنعنا بأن نقول بألسنتنا اللهم اغفر لنا وارحمنا ، والذي إليه رجاؤنا وبه اعتزازنا ينادينا ويقول : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ولا يغرنكم بالله الغرور يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ثم كل ذلك لا ينبهنا ولا يخرجنا عن أودية غرورنا وأمانينا فما هذه إلا محنة هائلة إن لم يتفضل الله علينا بتوبة نصوح يتداركنا بها ويجيرنا فنسأل الله تعالى أن يتوب علينا، بل نسأله أن يشوق إلى التوبة سرائر قلوبنا ، وأن لا يجعل حركة اللسان بسؤال التوبة غاية حظنا فنكون ممن يقول ولا يعمل ويسمع ولا يقبل إذا سمعنا الوعظ بكينا وإذا جاء وقت العمل بما سمعناه عصينا علامة للخذلان أعظم من هذا ، فنسأل الله تعالى أن يمن علينا بالتوفيق والرشد بمنه وفضله .
ولنقتصر من حكاية أحوال الخائفين على ما أوردناه فإن القليل من هذا يصادف القلب القابل فيكفي والكثير منه وإن أفيض على القلب الغافل فلا يغني .
ولقد صدق الراهب الذي حكى عنه عيسى بن مالك الخولاني وكان من خيار العباد أنه رآه على باب بيت المقدس واقفا كهيئة المحزون من شدة الوله ما يكاد يرقأ دمعه من كثرة البكاء فقال عيسى لما رأيته هالني منظره فقلت : أيها الراهب أوصني بوصية أحفظها عنك فقال يا أخي بماذا أوصيك إن استطعت أن تكون بمنزلة رجل قد احتوشته السباع والهوام فهو خائف حذر يخاف أن يغفل فتفترسه السباع ، أو يسهو فتنهشه الهوام ، فهو مذعور القلب وجل ، فهو في المخافة في ليله وإن أمن المغترون وفي الحزن نهاره وإن فرح البطالون ثم ولى وتركني فقلت لو زدتني شيئا عسى أن ينفعني فقال : الظمآن يجزيه من الماء أيسره وقد صدق فإن القلب الصافي يحركه أدنى مخافة والقلب الجامد تنبو عنه كل المواعظ وما ذكره من تقديره أنه احتوشته السباع والهوام فلا ينبغي أن يظن أنه تقدير بل هو تحقيق فإنك لو شاهدت بنور البصيرة باطنك لرأيته مشحونا بأصناف السباع وأنواع الهوام مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب والرياء وغيرها ، وهي التي لا تزال تفترسك وتنهشك إن غفلت عنها لحظة إلا أنك محجوب العين عن مشاهدتها فإذا انكشف الغطاء ووضعت في قبرك عاينتها وقد تمثلت لك بصورها وأشكالها الموافقة لمعانيها فترى بعينك العقارب والحيات وقد أحدقت بك في قبرك وإنما هي صفاتك الحاضرة الآن قد انكشفت لك صورها فإن أردت أن تقتلها وتقهرها وأنت قادر عليها قبل الموت فافعل وإلا فوطن نفسك على لدغها ونهشها لصميم قلبك فضلا عن ظاهر بشرتك والسلام .