أما المضطر إليه فهو سؤال الجائع عند خوفه على نفسه موتا أو مرضا وهو مباح مهما وجدت بقية الشروط في المسئول بكونه مباحا والمسئول منه بكونه راضيا في الباطن وفي السائل بكونه عاجزا عن الكسب فإن وسؤال العاري وبدنه مكشوف ليس معه ما يواريه إلا إذا استغرق طلب العلم أوقاته وكل من له خط فهو قادر على الكسب بالوراقة . القادر على الكسب وهو بطال له السؤال
وأما المستغني فهو . فسؤاله حرام قطعا وهذان طرفان واضحان . الذي يطلب شيئا وعنده مثله وأمثاله
وأما المحتاج حاجة مهمة فكالمريض الذي يحتاج إلى دواء ليس يظهر خوفه لو لم يستعمله ، ولكن لا يخلو عن خوف ، وكمن له جبة لا قميص تحتها في الشتاء وهو يتأذى بالبرد تأذيا لا ينتهي إلى حد الضرورة ، وكذلك فهذا أيضا ينبغي أن تسترسل عليه الإباحة لأنها أيضا حاجة محققة ، ولكن الصبر عنه أولى ، وهو بالسؤال تارك للأولى ولا يسمى سؤاله مكروها مهما صدق في السؤال وقال : ليس تحت جبتي قميص والبرد يؤذيني أذى أطيقه ، ولكن يشق علي فإذا صدق فصدقه يكون كفارة لسؤاله إن شاء الله تعالى . من يسأل لأجل الكراء وهو قادر على المشي بمشقة ،
وأما الحاجة الخفيفة فمثل سؤاله قميصا ليلبسه فوق ثيابه عند خروجه ليستر الخروق من ثيابه عن أعين الناس وكمن يسأل لأجل الأدم وهو واجد للخبز ، وكمن يسأل الكراء لفرس في الطريق وهو واجد كراء الحمار ، أو يسأل كراء المحمل وهو قادر على الراحلة ، فهذا ونحوه إن كان فيه تلبيس حال بإظهار حاجة غير هذه فهو حرام ، وإن لم يكن وكان فيه شيء من المحذورات الثلاثة من الشكوى والذل وإيذاء المسئول فهو حرام لأن مثل هذه الحاجة لا تصلح لأن تباح بها هذه المحذورات وإن ، لم يكن فيها شيء من ذلك فهو مباح مع الكراهة .
فإن قلت : فكيف يمكن إخلاء السؤال عن هذه المحذورات فاعلم أن الشكوى تندفع بأن يظهر الشكر لله والاستغناء عن الخلق ولا يسأل سؤال محتاج ولكن يقول أنا مستغن بما أملكه ، ولكن تطالبني رعونة النفس بثوب فوق ثيابي وهو فضلة عن الحاجة وفضول من النفس ، فيخرج به عن حد الشكوى ، وأما الذل فبأن يسأل أباه أو قريبه أو صديقه الذي يعلم أنه لا ينقصه ذلك في عينه ولا يزدريه بسبب سؤاله أو الرجل السخي الذي قد أعد ماله لمثل هذه المكارم فيفرح بوجود مثله ويتقلد منه منة بقبوله فيسقط عنه الذل بذلك ، فإن الذل لازم للمنة لا محالة .
وأما الإيذاء فسبيل الخلاص عنه أن لا يعين شخصا بالسؤال بعينه ، بل يلقي الكلام عرضا بحيث لا يقدم على البذل إلا متبرع بصدق الرغبة وإن كان في القوم شخص مرموق لو لم يبذل لكان يلام فهذا إيذاء فإنه ربما يبذل كرها خوفا من الملامة ويكون الأحب إليه في الباطن الخلاص لو قدر عليه من غير الملامة .
وأما إذا كان يسأل شخصا معينا فينبغي أن لا يصرح بل يعرض تعريضا يبقي له سبيلا إلى التغافل إن أراد فإذا لم يتغافل مع القدرة عليه فذلك لرغبته وأنه غير متأذ به ، وينبغي أن يسأل من لا يستحيا منه لو رده أو تغافل عنه ، فإن الحياء من السائل يؤذي كما أن الرياء مع غير السائل يؤذي .
فإن قلت فإذا : أخذ مع العلم بأن باعث المعطي هو الحياء منه أو من الحاضرين ولولاه لما ابتدأه به فهل هو حلال أو شبهة ، فأقول : ذلك حرام محض لا خلاف فيه بين الأمة ، وحكمه حكم أخذ مال الغير بالضرب والمصادرة ، إذ لا فرق بين أن يضرب ظاهر جلده بسياط الخشب أو يضرب باطن قلبه بسوط الحياء ، وخوف الملام ، وضرب الباطن أشد نكاية في قلوب العقلاء ولا يجوز أن يقال هو : في الظاهر قد رضي به ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: فإن هذه ضرورة القضاء في فصل الخصومات ، إذ لا يمكن ردهم إلى البواطن وقرائن الأحوال فاضطروا ، إلى الحكم بظاهر القول باللسان مع أنه ترجمان كثير الكذب ، ولكن الضرورة دعت إليه وهذا ، سؤال عما بين العبد وبين الله تعالى ، والحاكم فيه أحكم الحاكمين ، والقلوب عنده كالألسنة عند سائر الحكام فلا تنظر في مثل هذا إلا إلى قلبك وإن أفتوك وأفتوك فإن المفتي معلم للقاضي والسلطان ليحكموا في عالم الشهادة ، ومفتي القلوب هم علماء الآخرة وبفتواهم النجاة من سلطان الآخرة ، كما أن بفتوى الفقيه النجاة من سطوة سلطان الدنيا ، فإذا ما أخذه مع الكراهة لا يملكه بينه وبين الله تعالى ويجب عليه رده إلى صاحبه فإن كان يستحيي من أن يسترده ولم يسترده فعليه أن يثيبه على ذلك بما يساوي قيمته في معرض الهدية والمقابلة ليتفصى عن عهدته ، فإن لم يقبل هديته فعليه أن يرد ذلك إلى ورثته فإن تلف في يده فهو مضمون عليه بينه وبين الله تعالى وهو عاص بالتصرف فيه وبالسؤال الذي حصل به الأذى . إنما أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر
فإن قلت : فهذا أمر باطن يعسر الاطلاع عليه فكيف السبيل إلى الخلاص منها ، فربما يظن السائل أنه راض ولا يكون هو في الباطن راضيا فأقول : لهذا ترك المتقون السؤال رأسا فما كانوا يأخذون من أحد شيئا أصلا فكان بشر لا يأخذ من أحد أصلا إلا من السري رحمة الله عليهما وقال لأني علمت أنه يفرح بخروج المال من يده ، فأنا أعينه على ما يحب وإنما عظم النكير في السؤال وتأكد الأمر بالتعفف لهذا لأن الأذى إنما يحل بضرورة وهو أن يكون السائل مشرفا على الهلاك ولم يبق له سبيل إلى الخلاص ولم يجد من يعطيه من غير كراهة وأذى فيباح له ذلك كما يباح له أكل لحم الخنزير وأكل لحم الميتة فكان الامتناع طريق الورعين ومن أرباب القلوب من كان واثقا ببصيرته في الاطلاع على قرائن الأحوال فكانوا يأخذون من بعض الناس دون البعض ، ومنهم من كان لا يأخذ إلا من أصدقائه ومنهم من كان يأخذ مما يعطى بعضا ويرد بعضا كما فعل رسول الله : صلى الله عليه وسلم : في الكبش والسمن والأقط وكان هذا يأتيهم من غير سؤال ، فإن ذلك لا يكون إلا عن رغبة ، ولكن قد تكون رغبته طمعا في جاه أو طلبا للرياء والسمعة ، فكانوا يحترزون من ذلك فأما ، السؤال فقد امتنعوا عنه رأسا إلا في موضعين : أحدهما : الضرورة ، فقد سأل ثلاثة من الأنبياء في موضع الضرورة سليمان وموسى والخضر عليهم السلام .
ولا شك في أنهم ما سألوا إلا من علموا أنه يرغب في إعطائهم .
والثاني : السؤال من الأصدقاء والإخوان ، فقد كانوا يأخذون مالهم بغير سؤال واستئذان لأن أرباب القلوب علموا أن المطلوب رضا القلب لا نطق اللسان وقد كانوا ، وثقوا بإخوانهم أنهم كانوا يفرحون بمباسطتهم فإذا كانوا يسألون الإخوان عند شكهم في اقتدار إخوانهم على ما يريدونه وإلا فكانوا يستغنون عن السؤال .أن تعلم أن المسئول بصفة لو علم ما بك من الحاجة لابتدأك دون السؤال فلا يكون لسؤالك تأثير إلا بتعريف حاجتك فأما في تحريكه بالحياء وإثارة داعيته بالحيل فلا ويتصدى للسائل حالة لا يشك فيها في الرضا بالباطن وحالة لا يشك في الكراهة ويعلم ذلك بقرينة الأحوال ، فالأخذ في الحالة الأولى حلال طلق وفي الثانية سحت ويتردد ، بين الحالتين أحوال يشك فيها فليستفت قلبه فيها وليترك حزاز القلب فإنه الإثم وليدع ما يريبه إلى ما لا يريبه وإدراك ذلك بقرائن الأحوال سهل على من قويت فطنته وضعف حرصه وشهوته ، فإن قوي الحرص وضعفت الفطنة تراءى له ما يوافق غرضه فلا يتفطن للقرائن الدالة على الكراهة ، وبهذه الدقائق يطلع على سر قوله : صلى الله عليه وسلم : وحد إباحة السؤال وقد أوتي جوامع الكلم لأن من لا كسب له ولا مال ورثه من كسب أبيه أو أحد قرابته فليأكل من أيدي الناس ، وإن أعطي بغير سؤال فإنما يعطى بدينه ومتى يكون باطنه بحيث لو انكشف لا يعطى بدينه فيكون ما يأخذه حراما ، وإن أعطي بسؤال فأين من يطيب قلبه بالعطاء إذا سئل ، وأين من يقتصر في السؤال على حد الضرورة ؟ فإذا فتشت أحوال من يأكل من أيدي الناس علمت أن جميع ما يأكله أو أكثره سحت وأن الطيب هو الكسب الذي اكتسبته بحلالك أنت أو مورثك فإذا ، بعيد أن يجتمع الورع مع الأكل من أيدي الناس فنسأل الله تعالى أن يقطع طمعنا عن غيره وأن يغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه بمنه وسعة جوده فإنه على ما يشاء قدير . إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه