بيان . توكل المعيل
اعلم أن من له عيال فحكمه يفارق المنفرد لأن المنفرد لا يصح توكله إلا بأمرين ، أحدهما قدرته على الجوع أسبوعا من غير استشراف وضيق نفس والآخر أبواب من الإيمان ذكرناها من جملتها أن يطيب نفسا بالموت إن لم يأته رزقه علما بأن رزقه الموت والجوع ، وهو إن كان نقصا في الدنيا فهو زيادة في الآخرة ، فيرى أنه سيق إليه خير الرزقين له وهو رزق الآخرة وأن ، هذا هو المرض الذي به يموت ، ويكون راضيا بذلك ، وأنه كذا قضي وقدر له ، فبهذا يتم التوكل المنفرد ولا ولا يمكن أن يقرر عندهم الإيمان بالتوحيد وأن ، الموت على الجوع رزق مغبوط عليه في نفسه إن اتفق ذلك نادرا وكذا ، سائر أبواب الإيمان فإذا ، لا يمكنه في حقهم إلا توكل المكتسب ، وهو المقام الثالث كتوكل أبي بكر الصديق : رضي الله عنه : إذ خرج للكسب فأما دخول البوادي ، وترك العيال توكلا في حقهم ، أو القعود عن الاهتمام بأمرهم توكلا في حقهم فهذا حرام ، وقد يفضي إلى هلاكهم ، ويكون هو مؤاخذا بهم بل التحقيق أنه لا فرق بينه وبين عياله ، فإنه إن ساعده العيال على الصبر على الجوع مدة ، وعلى الاعتداد بالموت على الجوع رزقا وغنيمة في الآخرة فله أن يتوكل في حقهم ، ونفسه أيضا عيال عنده ، ولا يجوز له أن يضيعها إلا أن تساعده على الصبر على الجوع مدة ، فإن كان لا يطيقه ، ويضطرب عليه قلبه ، وتتشوش عليه عبادته لم يجز له التوكل ولذلك روي أن أبا تراب النخشبي نظر إلى صوفي مد يده إلى قشر بطيخ ليأكله بعد ثلاثة أيام فقال له : لا يصلح لك التصوف ، الزم السوق أي لا تصوف إلا مع التوكل . يجوز تكليف العيال الصبر على الجوع ،
وقال أبو علي الروذباري إذا قال الفقير بعد خمسة أيام : أنا جائع فألزموه السوق ، ومروه بالعمل والكسب فإن بدنه عياله وتوكله فيما يضر ببدنه ، كتوكله في عياله ، وإنما يفارقهم في شيء واحد وهو أن له تكليف نفسه الصبر على الجوع ، وليس له ذلك في عياله وقد انكشف لك من هذا أن التوكل ليس انقطاعا عن الأسباب بل الاعتماد على الصبر على الجوع مدة ، والرضا بالموت إن تأخر الرزق نادرا ، وملازمة البلاد والأمصار ، أو ملازمة البوادي التي لا تخلو عن حشيش ، وما يجري مجراه فهذه كلها أسباب البقاء ، ولكن مع نوع من الأذى ، إذ لا يمكن الاستمرار عليه إلا بالصبر ، والتوكل في الأمصار أقرب إلى الأسباب من التوكل في البوادي ، وكل ذلك من الأسباب إلا أن الناس عدلوا إلى أسباب أظهر منها ، فلم يعدوا تلك أسبابا ، وذلك لضعف إيمانهم ، وشدة حرصهم ، وقلة صبرهم على الأذى في الدنيا لأجل الآخرة ، واستيلاء الجبن على قلوبهم بإساءة الظن ، وطول الأمل . ولا يصح التوكل إلا لمن يصبر عن الطعام أكثر من ثلاثة أيام