ولذلك ترى الصبي يألف الصبي والكبير يألف الكبير ويألف الطير نوعه وينفر من غير نوعه وأنس العالم بالعالم أكثر منه بالمحترف وأنس النجار بالنجار أكثر من أنسه بالفلاح وهذا أمر تشهد به التجربة وتشهد له الأخبار والآثار ، كما استقصيناه في باب الأخوة في الله من كتاب آداب الصحبة فليطلب منه .
وإذا كانت المناسبة سبب المحبة فالمناسبة قد تكون في معنى ظاهر كمناسبة الصبي الصبي في معنى الصبا ، وقد يكون خفيا حتى لا يطلع عليه ، كما ترى من الاتحاد الذي يتفق بين شخصين من غير ملاحظة جمال ، أو طمع في مال ، أو غيره ، كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال : فالتعارف هو التناسب والتناكر هو التباين وهذا السبب أيضا يقتضي الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف لمناسبة باطنة لا ترجع إلى المشابهة في الصور والأشكال ، بل إلى معان باطنة يجوز أن يذكر بعضها في الكتب وبعضها لا يجوز أن يسطر ، بل يترك تحت غطاء الغيرة حتى يعثر عليه السالكون للطريق إذا استكملوا شرط السلوك . حب الله تعالى
فالذي يذكر هو قرب العبد من ربه : عز وجل : في الصفات التي أمر فيها بالاقتداء والتخلق بأخلاق الربوبية حتى قيل : تخلقوا بأخلاق الله وذلك في اكتساب محامد الصفات التي هي من صفات الإلهية من العلم والبر والإحسان واللطف وإفاضة الخير والرحمة على الخلق والنصيحة لهم وإرشادهم إلى الحق ومنعهم من الباطل إلى غير ذلك من مكارم الشريعة فكل ذلك يقرب إلى الله سبحانه وتعالى لا بمعنى طلب القرب بالمكان ، بل بالصفات .
وأما ما لا يجوز أن يسطر في الكتب من المناسبة الخاصة التي اختص بها الآدمي فهي التي يومئ إليها قوله تعالى ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ؛ إذ بين أنه أمر رباني خارج عن حد عقول الخلق وأوضح من ذلك قوله تعالى : فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ولذلك أسجد له ملائكته ويشير إليه قوله تعالى : إنا جعلناك خليفة في الأرض إذ لم يستحق آدم خلافة الله تعالى إلا بتلك المناسبة وإليه يرمز قوله صلى الله عليه وسلم: آدم على صورته حتى ظن القاصرون أن لا صورة إلا الصورة الظاهرة المدركة بالحواس فشبهوا وجسموا وصوروا تعالى الله رب العالمين عما يقول الجاهلون علوا كبيرا ، وإليه الإشارة بقوله تعالى إن الله خلق لموسى عليه السلام : مرضت فلم تعدني ، فقال : يا رب وكيف ذلك ؟ قال : مرض عبدي فلان فلم تعده ولو عدته وجدتني عنده وهذه المناسبة لا تظهر إلا بالمواظبة على النوافل بعد إحكام الفرائض كما قال الله تعالى : وهذا موضع يجب قبض عنان القلم فيه فقد تحزب الناس فيه إلى قاصرين مالوا إلى التشبيه الظاهر وإلى غالين مسرفين جاوزوا حد المناسبة إلى الاتحاد ، وقالوا بالحلول حتى قال بعضهم : أنا الحق وضل لا يزال يتقرب العبد إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به النصارى في عيسى عليه السلام فقالوا : هو الإله وقال آخرون منهم تدرع الناسوت باللاهوت وقال آخرون اتحد به وأما الذين انكشف لهم استحالة التشبيه والتمثيل واتضح لهم مع ذلك حقيقة السر فهم الأقلون ولعل أبا الحسن النوري عن هذا المقام كان ينظر إذا ؛ غلبه الوجد في قول القائل . واستحالة الاتحاد والحلول
لا زلت
أنزل من ودادك منزلا تتحير الألباب عند نزوله
فلم يزل يعدو في وجده على أجمة قد قطع قصبها وبقي أصوله حتى تشققت قدماه وتورمتا مات من ذلك وهذا هو أعظم أسباب الحب وأقواها وهو أعزها وأبعدها وأقلها وجودا ، فهذه هي المعلومة من أسباب الحب ، وجملة ذلك متظاهرة في حق الله تعالى تحقيقا لا مجازا ، وفي أعلى الدرجات لا في أدناها ، فكان المعقول المقبول عند ذوي البصائر حب الله تعالى فقط ، كما أن المعقول الممكن عند العميان حب غير الله تعالى فقط ثم كل من يحب من الخلق بسبب من هذه الأسباب يتصور أن يحب غيره لمشاركته إياه في السبب ، والشركة نقصان في الحب وغض من كماله ولا ينفرد أحد بوصف محبوب إلا وقد يوجد له شريك فيه ، فإن لم يوجد فيمكن أن يوجد إلا الله تعالى فإنه موصوف بهذه الصفات التي هي نهاية الجلال والكمال ولا شريك له في ذلك وجودا ، ولا يتصور أن يكون ذلك إمكانا فلا جرم لا يكون في حبه شركة فلا يتطرق النقصان إلى حبه ، كما لا تتطرق الشركة إلى صفاته فهو المستحق إذ الأصل المحبة ، ولكمال المحبة استحقاقا لا يساهم فيه أصلا .