بيان أن وأنه لا يتصور أن لا يؤثر عليها لذة أخرى إلا من حرم هذه اللذة . أجل اللذات وأعلاها معرفة الله تعالى والنظر إلى وجهه الكريم
اعلم أن اللذات تابعة للإدراكات ، والإنسان جامع لجملة من القوى والغرائز ولكل قوة وغريزة لذة ولذتها في نيلها لمقتضى طبعها الذي خلقت له فإن هذه الغرائز ما ركبت في الإنسان عبثا بل ركبت كل قوة وغريزة لأمر من الأمور هو مقتضاها بالطبع فغريزة الغضب خلقت للتشفي والانتقام فلا جرم لذتها في الغلبة والانتقام الذي هو مقتضى طبعها وغريزة شهوة الطعام مثلا خلقت لتحصيل الغذاء الذي به القوام فلا جرم لذتها في نيل هذا الغذاء الذي هو مقتضى طبعها ، وكذلك لذة السمع والبصر والشم في الإبصار والاستماع والشم فلا تخلو غريزة من هذه الغرائز عن ألم ولذة بالإضافة إلى مدركاتها ، فكذلك في القلب غريزة تسمى النور الإلهي لقوله تعالى أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه وقد تسمى العقل وقد تسمى البصيرة الباطنة وقد تسمى .
نور الإيمان واليقين ولا معنى للاشتغال بالأسامي فإن الاصطلاحات مختلفة والضعيف يظن أن الاختلاف واقع في المعاني لأن الضعيف يطلب المعاني من الألفاظ وهو عكس الواجب فالقلب مفارق لسائر أجزاء البدن بصفة بها يدرك المعاني التي ليست متخيلة ولا محسوسة كإدراكه خلق العالم أو افتقاره إلى خالق قديم مدبر حكيم موصوف بصفات إلهية ولنسم تلك الغريزة عقلا بشرط أن لا يفهم من لفظ العقل ما يدرك به طرق المجادلة والمناظرة ، فقد اشتهر اسم العقل بهذا ولهذا ذمه بعض الصوفية وإلا فالصفة التي فارق الإنسان بها البهائم وبها يدرك فلا ينبغي أن تذم وهذه الغريزة خلقت ليعلم بها حقائق الأمور كلها ، فمقتضى طبعها المعرفة والعلم ، وهي لذتها كما أن مقتضى سائر الغرائز هو لذتها وليس يخفى أن في العلم والمعرفة لذة حتى أن الذي ينسب إلى العلم والمعرفة ولو في شيء خسيس يفرح به والذي ينسب إلى الجهل ولو في شيء حقير يغتم به ، وحتى أن الإنسان لا يكاد يصبر عن التحدي بالعلم والتمدح به في الأشياء الحقيرة فالعالم باللعب بالشطرنج على خسته لا يطيق السكوت فيه عن التعليم وينطلق لسانه بذكر ما يعلمه ، وكل ذلك لفرط لذة العلم وما يستشعره من كمال ذاته به ، فإن معرفة الله تعالى أعز الصفات وهي منتهى الكمال ولذلك يرتاح الطبع إذا أثني عليه بالذكاء وغزارة العلم لأنه يستشعر عند سماع الثناء كمال ذاته وكمال علمه فيعجب بنفسه ويلتذ به ثم ليست لذة العلم بالحراثة والخياطة كلذة العلم بسياسة الملك وتدبير أمر الخلق ، ولا لذة العلم بالنحو والشعر كلذة العلم بالله تعالى وصفاته وملائكته وملكوت السموات والأرض بل لذة العلم بقدر شرف العلم ، وشرف العلم بقدر شرف المعلوم حتى أن الذي يعلم بواطن أحوال الناس ويخبر بذلك يجد له لذة وإن جهله تقاضاه طبعه أن يفحص عنه فإن علم بواطن أحوال رئيس البلد وأسرار تدبيره في رياسته كان ذلك ألذ عنده وأطيب من علمه بباطن حال فلاح أو حائك فإن اطلع على أسرار الوزير وتدبيره وما هو عازم عليه في أمور الوزارة فهو أشهى عنده وألذ من علمه بأسرار الرئيس فإن كان خبيرا بباطن أحوال الملك والسلطان الذي هو المستولي على الوزير كان ذلك أطيب عنده وألذ من علمه بباطن أسرار الوزير ، وكان تمدحه بذلك وحرصه عليه وعلى البحث عنه أشد وحبه له أكثر لأن لذته فيه أعظم . العلم من أخص صفات الربوبية ،
فهذا استبان أن ألذ المعارف أشرفها وشرفها بحسب شرف المعلوم فإن كان في المعلومات ما هو الأجل والأكمل والأشرف والأعظم ، فالعلم به ألذ العلوم لا محالة وأشرفها وأطيبها .
وليت شعري هل في الوجود شيء أجل وأعلى وأشرف وأكمل وأعظم من خالق الأشياء كلها ومكملها ومزينها ومبدئها ومعيدها ومدبرها ومرتبها وهل يتصور أن تكون حضرة في الملك والكمال والجمال والبهاء والجلال أعظم من الحضرة الربانية التي لا يحيط بمبادي جلالها وعجائب أحوالها وصف الواصفين فإن كنت لا تشك في ذلك فلا ينبغي أن تشك في أن الاطلاع على أسرار الربوبية والعلم بترتب الأمور الإلهية المحيطة بكل الموجودات هو أعلى أنواع المعارف والاطلاعات وألذها وأطيبها وأشهاها ، وأحرى ما تستشعر به النفوس عند الاتصاف به كمالها وجمالها ، وأجدر ما يعظم به الفرح والارتياح والاستبشار ، وبهذا تبين أن العلم لذيذ وأن من منتهى عرشه إلى تخوم الأرضين ، فينبغي أن يعلم أن لذة المعرفة أقوى من سائر اللذات أعني لذة الشهوات والغضب ولذة سائر الحواس الخمس فإن اللذات مختلفة بالنوع أولا كمخالفة لذة الوقاع للذة السماع ، ولذة المعرفة للذة الرياسة . ألذ العلوم العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وتدبيره في مملكته
وهي مختلفة بالضعف والقوة كمخالفة لذة الشبق للمغتلم من الجماع للذة الفاتر للشهوة وكمخالفة لذة النظر إلى الوجه الجميل الفائق الجمال للذة النظر إلى ما دونه في الجمال ، وإنما تعرف أقوى اللذات بأن تكون مؤثرة على غيرها ، فإن المخير بين النظر إلى صورة جميلة والتمتع بمشاهدتها وبين استنشاق روائح طيبة إذا اختار النظر إلى الصورة الجميلة علم أنها ألذ عنده من الروائح الطيبة ، وكذلك إذا حضر الطعام وقت الأكل واستمر اللاعب بالشطرنج على اللعب وترك الأكل ، فيعلم به أن لذة الغلبة في الشطرنج أقوى عنده من لذة الأكل .
فهذا معيار صادق في الكشف عن ترجيح اللذات فنعود ونقول: اللذات تنقسم إلى ظاهرة كلذة الحواس الخمس وإلى باطنة كلذة الرياسة والغلبة والكرامة والعلم وغيرها ؛ إذ ليست هذه اللذة للعين ولا للأنف ولا الأذن ولا للمس ولا للذوق ، والمعاني الباطنة أغلب على ذوي الكمال من اللذات الظاهرة فلو خير الرجل بين لذة الدجاج السمين واللوزينج وبين لذة الرياسة وقهر الأعداء ونيل درجة الاستيلاء ، فإن كان المخير خسيس الهمة ميت القلب شديد النهمة اختار اللحم والحلاوة ، وإن كان على الهمة كامل العقل اختار الرياسة وهان عليه الجوع والصبر عن ضرورة القوت أياما كثيرة ، فاختياره للرياسة يدل على أنها ألذ عنده من الطعومات الطيبة ، نعم الناقص الذي لم تكمل معانيه الباطنة بعد كالصبي أو كالذي ماتت قواه الباطنة كالمعتوه لا يبعد أن يؤثر لذة المطعومات على لذة الرياسة وكما أن لذة الرياسة والكرامة أغلب اللذات على من جاوز نقصان الصبا والعته ، فلذة معرفة الله تعالى ومطالعة جمال حضرة الربوبية والنظر إلى أسرار الأمور الإلهية ألذ من الرياسة التي هي أعلى اللذات الغالبة على الخلق وغاية العبارة عنه أن يقال فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين وأنه أعد لهم وهذا الآن لا يعرفه إلا من ذاق اللذتين جميعا ، فإنه لا محالة يؤثر التبتل والتفرد والفكر والذكر وينغمس في بحار المعرفة ويترك الرياسة ويستحقر الخلق الذين يرأسهم لعلمه بفناء رياسته وفناء من عليه رياسته ، وكونه مشوبا بالكدورات التي لا يتصور الخلو عنها وكونه مقطوعا بالموت الذي لا بد من إتيانه مهما أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها فيستعظم بالإضافة إليها لذة معرفة الله ومطالعة صفاته وأفعاله ونظام مملكته من أعلى عليين إلى أسفل السافلين ، فإنها خالية من المزاحمات والمكدرات متسعة للمتواردين عليها لا تضيق عنهم بكبرها ، وإنما عرضها من حيث التقدير السموات والأرض وإذا خرج . ، النظر عن المقدرات فلا نهاية لعرضها ، فلا يزال العارف بمطالعتها في جنة عرضها السموات والأرض يرتع في رياضها ويقطف من ثمارها ويكرع من حياضها ، وهو آمن من انقطاعها ؛ إذ ثمار هذه الجنة غير مقطوعة ولا ممنوعة ثم هي أبدية سرمدية لا يقطعها الموت ؛ إذ الموت لا يهدم محل معرفة الله تعالى ، ومحلها الروح الذي هو أمر رباني سماوي وإنما الموت يغير أحوالها ويقطع شواغلها وعوائقها ويخليها من حبسها ، فأما أن يعدمها فلا ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر ، على قلب بشر ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم الآية .
ولا تظنن أن هذا مخصوص بالمقتول في المعركة ، فإن للعارف بكل نفس درجة ألف شهيد وفي الخبر : وأن الشهداء يتمنون لو كانوا علماء لما يرونه من علو درجة العلماء . إن الشهيد يتمنى في الآخرة أن يرد إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى ؛ لعظم ما يراه من ثواب الشهادة
فإذا جميع أقطار ملكوت السموات والأرض ميدان العارف يتبوأ منه حيث يشاء من غير حاجة إلى أن يتحرك إليها بجسمه وشخصه ، فهو من مطالعة جمال الملكوت في جنة عرضها السموات والأرض ، وكل عارف فله مثلها من غير أن يضيق بعضهم على بعض أصلا إلا أنهم يتفاوتون في سعة منتزهاتهم بقدر تفاوتهم في اتساع نظرهم .
وسعة معارفهم ، وهم درجات عند الله ، ولا يدخل في الحصر تفاوت درجاتهم ، فقد ظهر أن لذة الرياسة وهي باطنة أقوى في ذوي الكمال من لذات الحواس كلها ، وأن هذه اللذة لا تكون لبهيمة ولا لصبي ولا لمعتوه وأن لذة المحسوسات والشهوات تكون لذوي الكمال مع لذة الرياسة ولكن يؤثرون الرياسة .