ولعمري طلاب العلوم وإن لم يشتغلوا بطلب معرفة الأمور الإلهية فقد استنشقوا رائحة هذه اللذة عند انكشاف المشكلات وانحلال الشبهات التي قوي حرصهم على طلبها فإنها أيضا معارف وعلوم ، وإن كانت معلوماتها غير شريفة شرف المعلومات الإلهية ، فأما من طال فكره في معرفة الله سبحانه وقد انكشف له من أسرار ملك الله ولو الشيء اليسير فإنه يصادف في قلبه عند حصول الكشف من الفرح ما يكاد يطير به ويتعجب من نفسه في ثباته واحتماله لقوة فرحه وسروره ، وهذا مما لا يدرك إلا بالذوق والحكاية فيه قليلة الجدوى .
فهذا القدر ينبهك على أن . معرفة الله سبحانه ألذ الأشياء وأنه لا لذة فوقها
ولهذا قال إن لله عبادا ليس يشغلهم عن الله خوف النار ولا رجاء الجنة ، فكيف تشغلهم الدنيا عن الله ولذلك قال بعض إخوان معروف الكرخي له : أخبرني يا أبو سليمان الداراني أبا محفوظ أي شيء هاجك إلى العبادة والانقطاع عن الخلق ؟ فسكت فقال : ذكر الموت فقال : وأي شيء الموت فقال : ذكر القبر والبرزخ ، فقال : وأي شيء القبر ؟ فقال : خوف النار ورجاء الجنة ، فقال : وأي شيء هذا ؟ إن ملكا هذا كله بيده إن أحببته أنساك جميع ذلك ، وإن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا .
وفي أخبار عيسى عليه السلام : إذا رأيت الفتى مشغوفا بطلب الرب تعالى فقد ألهاه ذلك عما سواه .
ورأى بعض الشيوخ بشر بن الحارث في النوم فقال ما فعل أبو نصر التمار وعبد الوهاب الوراق فقال تركتهما الساعة بين يدي الله تعالى يأكلان ويشربان ، قلت : فأنت ؟ قال : علم الله قلة رغبتي في الأكل والشرب فأعطاني النظر إليه .
وعن علي بن الموفق قال : رأيت في النوم كأني أدخلت الجنة فرأيت رجلا قاعدا على مائدة وملكان عن يمينه وشماله يلقمانه من جميع الطيبات ، وهو يأكل ورأيت رجلا قائما على باب الجنة يتصفح وجوه الناس ، فيدخل بعضا ويرد بعضا قال : ثم جاوزتهما إلى حديقة القدس فرأيت في سرادق العرش رجلا قد شخص ببصره ينظر إلى الله تعالى لا يطرف ، فقلت لرضوان : من هذا قال ؟ عبد الله لا خوفا من ناره ولا شوقا إلى جنته ، بل حبا له فأباحه النظر إليه إلى يوم القيامة . معروف الكرخي
وذكر أن الآخرين بشر بن الحارث ولذلك قال وأحمد بن حنبل أبو سليمان من كان اليوم مشغولا بنفسه فهو غدا مشغول بنفسه ، ومن كان اليوم مشغولا بربه فهو غدا مشغول بربه .
وقال الثوري لرابعة ما حقيقة إيمانك ؟ قالت : ما عبدته خوفا من ناره ولا حبا لجنته فأكون كالأجير السوء بل عبدته حبا له وشوقا إليه وقالت في نظما : معنى المحبة
أحبك حبين حب الهوى وحبا لأنك أهل لذاكا فأما الذي هو حب الهوى
فشغلي بذكرك عمن سواكا وأما الذي أنت أهل له
فكشفك لي الحجب حتى أراكا فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا