والرابع : اندفاع العوائق المشوشة : والآلام الشاغلة للقلب ، فليس التذاذ الصحيح الفارغ المتجرد للنظر إلى المعشوق كالتذاذ الخائف المذعور ، أو المريض المتألم ، أو المشغول قلبه بمهم من المهمات .
فقدر عاشقا ضعيف العشق ينظر إلى وجه معشوقه من وراء ستر رقيق على بعد بحيث يمنع انكشاف كنه صورته في حالة اجتمع عليه عقارب وزنابير تؤذيه وتلدغه وتشغل قلبه فهو في هذه الحالة لا يخلو عن لذة ما من مشاهدة معشوقه ، فلو طرأت على الفجأة حالة انهتك بها الستر وأشرق بها الضوء واندفع عنه المؤذيات وبقي سليما فارغا وهجمت عليه الشهوة القوية والعشق المفرط حتى بلغ أقصى الغايات ، فانظر كيف تتضاعف اللذة حتى لا يبقى للأولى إليها نسبة يعتد بها ، فكذلك فافهم نسبة لذة النظر إلى لذة المعرفة .
فالستر الرقيق مثال البدن والاشتغال به والعقارب والزنابير مثال الشهوات المتسلطة على الإنسان من الجوع والعطش والغضب والغم والحزن وضعف الشهوة والحب مثال لقصور النفس في الدنيا ونقصانها عن الشوق إلى الملأ الأعلى والتفاتها إلى أسفل السافلين ، وهو مثل قصور الصبي عن ملاحظة لذة الرياسة والتفاته إلى اللعب بالعصفور ، والعارف وإن قويت في الدنيا معرفته فلا يخلو عن هذه المشوشات ولا يتصور أن يخلو عنها البتة .
نعم قد تضعف هذه العوائق في بعض الأحوال ولا تدوم ، فلا جرم يلوح من جمال المعرفة ما يبهت العقل وتعظم لذته بحيث يكاد القلب يتفطر لعظمته ، ولكن يكون ذلك .
كالبرق الخاطف وقلما يدوم ، بل يعرض من الشواغل والأفكار والخواطر ما يشوشه وينغصه وهذه ضرورة دائمة في هذه الحياة الفانية ، فلا تزال هذه اللذة منغصة إلى الموت ، وإنما وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون وكل من انتهى إلى هذه الرتبة فإنه يحب لقاء الله تعالى فيحب الموت ولا يكرهه إلا من حيث ينتظر زيادة استكمال في المعرفة ؛ فإن المعرفة كالبذر ، وبحر المعرفة لا ساحل له ، فالإحاطة بكنه جلال الله محال فكلما كثرت المعرفة بالله وبصفاته وأفعاله وبأسرار مملكته وقويت كثر النعيم في الآخرة وعظم ، كما أنه كلما كثر البذر وحسن كثر الزرع وحسن ، ولا يمكن تحصيل هذا البذر إلا في الدنيا ولا يزرع إلا في صعيد القلب ولا حصاد إلا في الآخرة . الحياة الطيبة بعد الموت وإنما العيش عيش الآخرة
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفضل السعادات طول العمر في طاعة الله لأن المعرفة إنما تكمل وتكثر وتتسع في العمر الطويل بمداومة الفكر والمواظبة على المجاهدة والانقطاع عن علائق الدنيا والتجرد للطلب ، ويستدعي ذلك زمانا لا محالة ؛ فمن أحب الموت أحبه ؛ لأنه رأى نفسه واقفا في المعرفة بالغا إلى منتهى ما يسر له ، ومن كره الموت كرهه ؛ لأنه كان يؤمل مزيد معرفة تحصل له بطول العمر ، ورأى نفسه مقصرا عما تحتمله قوته لو عمر ، فهذا سبب كراهة الموت وحبه عند أهل المعرفة .
وأما سائر الخلق فنظرهم مقصور على شهوات الدنيا إن اتسعت أحبوا البقاء وإن ضاقت تمنوا الموت .
وكل ذلك حرمان وخسران مصدره الجهل والغفلة .
فالجهل والغفلة مغرس كل شقاوة .
، فقد عرفت بما ذكرناه معنى المحبة ومعنى العشق فإنه المحبة المفرطة القوية ، ومعنى لذة المعرفة ومعنى الرؤية ومعنى لذة الرؤية ومعنى كونها ألذ من سائر اللذات عند ذوي العقول والكمال وإن لم تكن كذلك عند ذوي النقصان ، كما لم تكن الرياسة ألذ من المطعومات عند الصبيان . والعلم والمعرفة أساس كل سعادة
فإن قلت : فهذه الرؤيا فاعلم أن الناس قد اختلفوا في ذلك ، وأرباب البصائر لا يلتفتون إلى هذا الخلاف ولا ينظرون فيه ، بل العاقل يأكل البقل ولا يسأل عن المبقلة ومن يشتهي رؤية معشوقه يشغله عشقه عن أن يلتفت إلى أن رؤيته تخلق في عينه ، أو جبهته ، بل يقصد الرؤيا ولذتها سواء كان ذلك بالعين أو غيرها ، فإن العين محل وظرف لا نظر إليه ولا حكم له ، والحق فيه أن القدرة الأزلية واسعة ، فلا يجوز أن نحكم عليها بالقصور عن أحد الأمرين ، هذا في حكم الجواز ، فأما الواقع في الآخرة من الجائزين فلا يدرك إلا بالسمع والحق ما ظهر لأهل السنة والجماعة من شواهد الشرع أن ذلك يخلق في العين ليكون لفظ الرؤية والنظر وسائر الألفاظ الواردة في الشرع مجرى على ظاهره ؛ إذ لا يجوز إزالة الظواهر إلا لضرورة ، والله تعالى أعلم . محلها القلب أو العين في الآخرة ،