والسلو يدخل عليه من حيث لا يشعر ، كما قد يدخل عليه الحب من حيث لا يشعر فإن هذه التقلبات لها أسباب خفية سماوية ليس في قوة البشر الاطلاع عليها فإذا أراد الله المكر به واستدراجه أخفى عنه ما ورد عليه من السلو فيقف مع الرجاء ويغتر بحسن النظر أو بغلبة الغفلة ، أو الهوى أو النسيان ؛ فكل ذلك من جنود الشيطان التي تغلب جنود الملائكة من العلم والعقل والذكر والبيان وكما أن من أوصاف الله تعالى ما يظهر فيقتضي هيجان الحب ، وهي أوصاف اللطف والرحمة والحكمة فمن أوصافه ما يلوح فيورث السلو كأوصاف الجبرية والعزة والاستغناء وذلك من مقدمات المكر والشقاء والحرمان .
ثم خوف الاستبدال به بانتقال القلب من حبه إلى حب غيره وذلك هو المقت والسلو عنه مقدمة هذا المقام والإعراض والحجاب مقدمة السلو : وضيق الصدر بالبر وانقباضه عن دوام الذكر وملاله لوظائف الأوراد أسباب هذه المعاني ومقدماتها .
وظهور هذه الأسباب دليل على النقل عن مقام الحب إلى مقام المقت ، نعوذ بالله منه وملازمة الخوف لهذه الأمور وشدة الحذر منها فإن من أحب شيئا خاف لا محالة فقده ، فلا يخلو المحب عن خوف إذا كان المحبوب مما يمكن فواته . بصفاء المراقبة دليل صدق الحب
وقد قال بعض العارفين : من عبد الله تعالى بمحبة من غير خوف هلك بالبسط والإدلال ، ومن عبده من طريق الخوف من غير محبة انقطع عنه بالبعد والاستيحاش ، ومن عبده من طريق المحبة والخوف أحبه الله تعالى فقربه ومكنه وعلمه فالمحب لا يخلو عن خوف والخائف لا يخلو عن محبة ، ولكن الذي غلبت عليه المحبة حتى اتسع فيها ولم يكن له من الخوف إلا يسير يقال هو في مقام المحبة ويعد من المحبين وكان شوب الخوف يسكن قليلا من سكر الحب ؛ فلو غلب الحب واستولت المعرفة لم تثبت لذلك طاقة البشر ؛ فإنما الخوف يعدله ويخفف وقعه على القلب .
فقد روي في بعض الأخبار أن بعض الصديقين سأله بعض الأبدال أن يسأل الله تعالى أن يرزقه ذرة من معرفته ففعل ذلك فهام في الجبال وحار عقله ووله قلبه وبقي شاخصا سبعة أيام لا ينتفع بشيء ولا ينتفع به شيء ، فسأل له الصديق ربه تعالى ، فقال : يا رب : أنقصه من الذرة بعضها ، فأوحى الله تعالى إليه إنما أعطيناه جزءا من مائة ألف جزء من المعرفة ، وذلك أن مائة ألف عبد سألوني شيئا من المحبة في الوقت الذي سألني هذا فأخرت إجابتهم إلى أن شفعت أنت لهذا ؛ فلما أجبتك فيما سألت أعطيتهم كما أعطيته فقسمت ذرة من المعرفة بين مائة ألف عبد ، فهذا ما أصابه من ذلك ؛ فقال : سبحانك يا أحكم الحاكمين أنقصه مما أعطيته ، فأذهب الله عنه جملة الجزء وبقي معه عشر معشاره ، وهو جزء من عشرة آلاف جزء من مائة ألف جزء من ذرة ، فاعتدل خوفه وحبه ورجاؤه وسكن وصار كسائر العارفين وقد قيل في وصف حال العارف .
قريب الوجد ذو مرمى بعيد عن الأحرار منهم والعبيد غريب الوصف ذو علم غريب
كان فؤاده زبر الحديد لقد عزت معانيه
وجلت عن الأبصار إلا للشهيد يرى الأعياد في الأوقات تجري
له في كل يوم ألف عيد وللأحباب أفراح بعيد
ولا يجد السرور له بعيد
سرت بأناس في الغيوب قلوبهم فحلوا بقرب الماجد المتفضل
عراصا بقرب الله في ظل قدسه تجول به أرواحهم وتنقل
مواردهم فيها على العز . والنهى ومصدرهم عنها لما هو أكمل
تروح بعز مفرد من صفاته وفي حلل التوحيد تمشي وترفل
ومن بعد هذا ما تدق صفاته وما كتمه أولى لديه وأعدل
سأكتم من علمي به ما يصونه وأبذل منه ما أرى الحق يبذل
وأعطي عباد الله منه حقوقهم وأمنع منه ما أرى المنع يفضل
على أن للرحمن سرا يصونه إلى أهله في السر والصون أجمل