اعلم أن الأنس إذا دام وغلب واستحكم ولم يشوشه قلق الشوق ولم ينغصه خوف التغير والحجاب ، فإنه يثمر نوعا من الانبساط في الأقوال والأفعال والمناجاة مع الله تعالى ، وقد يكون منكر الصورة لما فيه من الجراءة وقلة الهيبة ، ولكنه محتمل ممن أقيم في مقام الأنس ومن لم يقم في ذلك المقام ويتشبه بهم في الفعل والكلام هلك به وأشرف على الكفر .
ومثاله مناجاة برخ الأسود الذي أمر الله تعالى كليمه موسى عليه السلام : أن يسأله ليستسقي لبني إسرائيل .
بعد أن قحطوا سبع سنين وخرج موسى عليه السلام ليستسقي لهم في سبعين ألفا ، فأوحى الله : عز وجل : إليه كيف أستجيب لهم ، وقد أظلمت عليهم ذنوبهم، سرائرهم خبيثة يدعونني على غير يقين ، ويأمنون مكري ، ارجع إلى عبد من عبادي يقال له برخ ؛ فقل له يخرج حتى أستجيب له ، فسأل عنه موسى عليه السلام فلم يعرف فبينما موسى ذات يوم يمشي في طريق إذا بعبد أسود قد استقبله ، بين عينيه تراب من أثر السجود ، في شملة قد عقدها على عنقه ، فعرفه موسى عليه السلام : بنور الله : عز وجل : فسلم عليه وقال : له ما اسمك ؟ فقال : اسمي برخ . قال : فأنت طلبتنا منذ حين اخرج ، فاستسق لنا .
فخرج فقال في كلامه : ما هذا من فعالك ، ولا هذا من حلمك ، وما الذي بدا لك ؟ ؟ أنقصت عليك عيونك ؟ أم عاندت الرياح عن طاعتك ؟ أم نفد ما عندك ؟ أم اشتد غضبك على المذنبين ؟ ألست كنت غفارا قبل خلق الخطائين ؟ خلقت الرحمة وأمرت بالعطف ، أم ترينا أنك ممتنع ؟ أم تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة ؟ قال فما برح حتى أخضلت بنو إسرائيل بالقطر ، وأنبت الله تعالى العشب في نصف يوم حتى بلغ الركب ، قال : فرجع برخ ، فاستقبله موسى : عليه السلام : فقال كيف رأيت حين خاصمت ربي كيف أنصفني فهم موسى : عليه السلام : به فأوحى الله تعالى إليه إن برخا يضحكني كل يوم ثلاث مرات .
وعن الحسن قال احترقت أخصاص بالبصرة فبقي في وسطها خص لم يحترق وأبو موسى يومئذ أمير البصرة فأخبر بذلك فبعث إلى صاحب الخص ، قال : فأتي بشيخ فقال يا شيخ ، ما بال خصك لم يحترق قال ؟! : إني أقسمت على ربي : عز وجل : أن لا يحرقه . فقال رضي الله عنه إني سمعت رسول الله : صلى الله عليه وسلم : يقول : أبو موسى يكون في أمتي قوم شعثة رءوسهم ، دنسة ثيابهم ، لو أقسموا على الله لأبرهم قال : ووقع حريق بالبصرة فجاء أبو عبيدة الخواص فجعل يتخطى النار ، فقال له أمير البصرة : انظر ، لا تحترق بالنار . فقال : إني أقسمت على ربي : عز وجل : أن لا يحرقني بالنار . قال : فاعزم على النار أن تطفأ . قال : فعزم عليها فطفئت .
وكان أبو حفص يمشي ذات يوم فاستقبله رستاقي مدهوش فقال له أبو حفص : ما أصابك فقال : ضل حماري ، ولا أملك غيره . قال : فوقف أبو حفص ، وقال : وعزتك لا أخطو خطوة ما لم ترد عليه حماره . قال : فظهر حماره في الوقت ، ومر أبو حفص رحمه الله .
فهذا وأمثاله يجري لذوي الأنس وليس لغيرهم أن يتشبه بهم .
قال الجنيد رحمه الله: أهل الأنس يقولون في كلامهم ومناجاتهم في خلواتهم أشياء هي كفر عند العامة .
وقال مرة : لو سمعها العموم لكفروهم ، وهم يجدون المزيد في أحوالهم بذلك .
وذلك يحتمل منهم ويليق بهم وإليه أشار القائل :
قوم تخالجهم زهو بسيدهم والعبد يزهو على مقدار مولاه تاهوا برؤيته عما سواه له
يا حسن رؤيتهم في عز ما تاهوا
فأول القصص قصة آدم عليه السلام : وإبليس ، أما تراهما كيف اشتركا في اسم المعصية والمخالفة ثم ؟! تباينا في الاجتباء والعصمة .
أما إبليس فأبلس عن رحمته ، وقيل : إنه من المبعدين .
وأما ، آدم : عليه السلام : فقيل فيه : وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى .
وقد عاتب الله نبيه : صلى الله عليه وسلم : في الإعراض عن عبد والإقبال على عبد ، وهما في العبودية سيان ، ولكن في الحال مختلفان ، فقال : وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى ، وقال في الآخرة : أما من استغنى فأنت له تصدى وكذلك أمره بالقعود مع طائفة فقال عز وجل : وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم وأمره بالإعراض عن غيرهم فقال : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى قال : فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وقال تعالى : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي .
فكذا ، الانبساط والإدلال يحتمل من بعض العباد دون بعض ، فمن انبساط الأنس قول موسى عليه السلام إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء وقوله في التعليل والاعتذار لما قيل له : اذهب إلى فرعون فقال : ولهم علي ذنب وقوله : إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني وقوله إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى . وهذا من غير موسى عليه السلام من سوء الأدب لأن الذي أقيم مقام الأنس يلاطف ويحتمل ، ولم يحتمل ليونس عليه السلام ما دون هذا لما أقيم مقام القبض والهيبة ، فعوقب بالسجن في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، ونودي عليه إلى يوم القيامة : لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم قال : الحسن العراء هو القيامة ، ونهى نبينا : صلى الله عليه وسلم : أن يقتدى به .
وقيل له : فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم .
وهذه الاختلافات بعضها لاختلاف الأحوال والمقامات ، وبعضها لما سبق في الأزل من ، وقد قال تعالى : التفاضل والتفاوت في القسمة بين العباد ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وقد قال منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات فكان عيسى : عليه السلام : من المفضلين ، ولإدلاله سلم على نفسه فقال : والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا وهذا انبساط منه لما شاهد من اللطف في مقام الأنس .
وأما يحيى بن زكريا عليه السلام فإنه أقيم مقام الهيبة والحياء فلم ينطق حتى أثنى عليه خالقه فقال وسلام عليه .
وانظر كيف احتمل لإخوة يوسف ما فعلوه بيوسف وقد قال بعض العلماء : قد عددت من أول قوله تعالى : إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا إلى رأس العشرين من إخباره تعالى عن زهدهم ، فيه نيفا وأربعين خطيئة ، بعضها أكبر من بعض ، وقد يجتمع في الكلمة الواحدة الثلاث والأربع ، فغفر لهم وعفا عنهم ولم يحتمل العزير في مسألة واحدة سأل عنها في القدر حتى قيل محي : من ديوان النبوة وكذلك كان بلعام بن باعوراء من أكابر العلماء فأكل الدنيا بالدين فلم يحتمل له ذلك .
وكان آصف من المسرفين وكانت معصيته في الجوارح ، فعفا عنه .
فقد روي أن الله تعالى أوحى إلى سليمان عليه السلام : يا رأس العابدين ، ويا ابن محجة الزاهدين ، إلى كم يعصيني ابن خالتك آصف ؟! وأنا أحلم عليه مرة بعد مرة فوعزتي ، وجلالي ، لئن أخذته عصفة من عصفاتي عليه لأتركنه مثلة لمن معه ، ونكالا لمن بعده فلما دخل آصف على سليمان عليه السلام أخبره بما أوحى الله تعالى إليه فخرج حتى علا كثيبا من رمل ، ثم رفع رأسه ويديه نحو السماء وقال : إلهي وسيدي ، أنت أنت وأنا أنا فكيف أتوب إن لم تتب علي ؟ وكيف أستعصم إن لم تعصمني لأعودن فأوحى الله تعالى إليه صدقت يا آصف ، أنت أنت ، وأنا أنا ، أستقبل التوبة وقد ، تبت عليك ، وأنا التواب الرحيم وهذا كلام مدل به عليه ، وهارب منه إليه ، وناظر به إليه .
وفي ، الخبر أن الله تعالى أوحى إلى عبد تداركه بعد أن كان أشفى على الهلكة كم من ذنب واجهتني به غفرته لك قد أهلكت في دونه أمة من الأمم .
فهذه سنة الله تعالى في عباده بالتفضيل والتقديم والتأخير على ما سبقت به المشيئة الأزلية .
وهذه القصص وردت في القرآن لتعرف بها سنة الله في عباده الذين خلوا من قبل ، فما في القرآن شيء إلا وهو هدى ونور ، وتعرف من الله تعالى إلى خلقه ؛ فتارة يتعرف إليهم بالتقديس فيقول : قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وتارة يتعرف إليهم بصفات جلاله فيقول الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر وتارة يتعرف إليهم في أفعاله المخوفة والمرجوة ، فيتلو عليهم سنته في أعدائه وفي أنبيائه فيقول : ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ولا يعدو القرآن هذه الأقسام الثلاثة ؛ وهي : الإرشاد إلى معرفة ذات الله وتقديسه ، أو معرفة صفاته وأسمائه ، أو معرفة أفعاله وسنته مع عباده .
[ ص: 641 ]