قال : "والعدم المقابل لها ارتفاع هذه الملكة" . [ ص: 36 ] قال : "فإن أريد بتقابل الإدراك ونفيه تقابل التناقض بالسلب والإيجاب ، وهو أنه لا يخلو من كونه سميعا وبصيرا ، ومتكلما ، أو ليس ، فهو ما يقوله الخصم ، ولا يقبل نفيه من غير دليل .
"وإن أريد بالتقابل تقابل العدم والملكة ، فلا يلزم من نفي الملكة تحقق العدم ولا بالعكس ، إلا في محل يكون قابلا لهما ، ولهذا يصح أن يقال : الحجر لا أعمى ولا بصير ، والقول بكون الباري تعالى قابلا للبصر والعمى ، دعوى محل النزاع والمصادرة على المطلوب . وعلى هذا فقد امتنع نفي لزوم العمى والخرس والطرش في حق الله تعالى من ضرورة نفي البصر والسمع والكلام عنه" .
[قلت : وقد أشكل هذا على كثير من النظار حتى ضل به لاعتقادهم صحته حتى على فهذا كلامه في الخلو عن الضدين بالمعنى العام [قد] أورد عليه ما ذكر ، فكيف يدعي أنه [ ص: 37 ] قرره؟ وهذا الإيراد إيراد معروف للمعطلة نفاة الصفات ، وهو إيراد فاسد من وجوه . الآمدي]
أحدها : أن يقال : نحن نريد بالتقابل السلب والإيجاب ، ونفي هذه الصفات يتضمن النقص لكل من نفيت عنه ، سواء قيل : إنه قابل لها أو لم يقل، فإنه من المعلوم بصريح العقل أن المتصف بالحياة والعلم والكلام والسمع والبصر أكمل ممن لم يتصف بذلك، وما قدر انتفاء ذلك عنه كالجماد فهو أنقص بالنسبة إلى من اتصف بذلك .
وهو قد سلك في إثبات الصفات طريقة الكمال ، وهي في الحقيقة من جنس هذه ، فقال : "واعلم أن ههنا طريقة رشيقة سهلة المعرك ، قريبة المدرك، يعسر على المنصف المتبحر الخروج عنها ، والقدح في دلالتها ، يمكن طردها في ، وهي مما ألهمني الله إياها، ولم أجدها على صورتها وتحريرها لأحد غيري ، وهو أن يقال : المفهوم من كل واحد من هذه الصفات المذكورة ، مع قطع النظر عما يتصف به ، صفة كمال أو لا صفة كمال ، لا جائز أن تكون لا صفة كمال ، وإلا كان حال من اتصف بها في الشاهد أنقص من حال من لم يتصف بها إن كان عدمها في نفس الأمر كمالا، أو مساويا من لم يتصف بها إن لم يكن عدمها في نفس الأمر كمالا، وهو خلاف ما نعلمه بالضرورة في الشاهد، فلم يبق إلا القسم الأول، وهو أنه في [ ص: 38 ] نفسها وذواتها كمال ، وعند ذلك فلو قدر عدم اتصاف الباري تعالى بها لكان ناقصا بالنسبة إلى من اتصف بها من مخلوقاته ، ومحال أن يكون الخالق أنقص من المخلوق" . إثبات جميع الصفات النفسانية
قلت : هذه الحجة مادتها صحيحة ، وقد استدل بها ما شاء الله من السلف والخلف، وإن كان تصويرها والتعبير عنها يتنوع، وهذه المادة بعينها يمكن نقلها إلى الحجة الأولى التي زيفها بأن يقال : لو لم يتصف بصفات الكمال لاتصف بنقائضها وهي صفات نقص، فيكون أنقص من بعض مخلوقاته .
الوجه الثاني : أن يقال : هب أنهما متقابلان تقابل العدم والملكة ، فقولكم : لا يلزم من نفي أحدهما ثبوت الآخر إلا إذا كان المحل قابلا .
جوابه أن يقال : الموجودات نوعان: نوع يقبل الاتصاف بأحد هذين كالحيوان، وصنف لا يقبل ذلك كالجماد. ومن المعلوم أن ما قبل أحدهما أكمل ممن لا يقبل واحدا منهما. وإن كان موصوفا بالعمى والصمم والخرس ، فإن الحيوان الذي هو كذلك أقرب إلى الكمال ممن لا يقبل لا هذا ولا هذا ، إذ الحيوان الأبكم الأعمى الأصم يمكن أن يتصف بصفات الكمال ، وما يقبل الاتصاف بصفات الكمال أكمل ممن لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال .
فإذا كان قد علم أن الرب تعالى مقدس عن أن يتصف بهذه النقائص مع قبوله للاتصاف بصفات الكمال ، فلأن يقدس عن كونه لا يقبل [ ص: 39 ] الاتصاف بصفات الكمال أولى وأحرى . وهذا معلوم ببداهة العقول .
الوجه الثالث : أن نقول : لا نسلم أن في الأعيان ما لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات ، فإن الله قادر على أن يخلق الحياة في كل جسم ، وأن ينطقه كما أنطق ما شاء من الجمادات . [وقد] قال تعالى : والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء [سورة النحل 20 – 21] .
وإذا كان كذلك فدعواهم أن من الأعيان ما لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات ، رجوع منهم إلى مجرد ما شهدوه من العادة، وإلا فمن كان مصدقا بأن الله قلب عصا موسى -وهي جماد- ثعبانا عظيما ابتلعت الحبال والعصي لم يمكنه أن يطرد هذه الدعوى .