ومن الحوادث في هذه السنة: أحد . وكانت يوم السبت لسبع خلون من شوال ، وكان سببها أنه لما رجع من حضر غزاة بدرا من المشركين إلى مكة وجدوا العير التي قدم بها أبو سفيان موقوفة في دار الندوة ، فمشت أشراف قريش إلى أبي سفيان ، فقالوا: [ ص: 162 ] نحن طيبوا الأنفس بأن تجهز بربح هذه العير جيشا إلى محمد ، فقال أبو سفيان: أنا أول من أجاب إلى ذلك ، وبنو عبد مناف معي ، فباعوها فصارت ذهبا ، وكانت ألف بعير ، وكان المال خمسين ألف دينار ، فسلم إلى أهل العير رءوس أموالهم ، وعزلت الأرباح ، وبعثوا الرسل إلى العرب يستنصرونهم ، وأجمعوا على إخراج الظعن معهم ليذكرنهم قتلى بدر [فيحفظنهم] فيكون أجد لهم في القتال .
وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم ، فخرجت قريش ومعهم العباس بن عبد المطلب أبو عامر الراهب ، وكان عددهم ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دارع ، ومعهم مائتا فرس وثلاثة آلاف بعير ، وكانت الظعن خمس عشرة امرأة ، فساروا حتى نزلوا ذا الحليفة فأقاموا يوم الأربعاء والخميس والجمعة ، وبات سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة من الناس ، وحرست وأسيد بن حضير المدينة ، [فأولها] فقال: أما الدرع ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه في درع حصينة ، وكأن سيفه ذا الفقار قد انفصم ، وكأن بقرا تذبح ، وكأنه مردف كبشا ، فالمدينة ، والبقر قتل في أصحابي ، وانفصام سيفي مصيبة في نفسي ، والكبش كبش الكتيبة نقتله إن شاء الله ، وكان رأيه صلى الله عليه وسلم أن لا يخرج من المدينة ، وكان ذلك رأي الأكابر من أصحابه ، وطلب فتيان أحداث لم يشهدوا بدرا أن يخرجوا حرصا على الشهادة فغلبوا على الأمر ، فصلى الجمعة ثم وعظهم وأمرهم بالجد والجهاد ، ثم صلى العصر ، ثم دخل بيته ومعه أبو بكر ، فعمماه ولبساه وصف الناس له ، فخرج صلى الله عليه وسلم قد لبس لأمته وأظهر الدرع ، وحزم وسطها بمنطقة من أدم واعتم ، وتقلد السيف ، وألقى الترس في ظهره ، فندموا جميعا على ما صنعوا ، وقالوا: ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك ، فقال صلى الله عليه وسلم: وعمر لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه فامضوا على اسم الله ، فلكم النصر إن صبرتم . [ ص: 163 ]
فعقد ثلاثة ألوية ، فدفع ولواء الخزرج إلى أسيد بن حضير ، الحباب ، وقيل: إلى لواء الأوس إلى ولواء المهاجرين إلى سعد بن عبادة ، رضي الله عنه ، وقيل: إلى علي بن أبي طالب مصعب بن عمير ، على عبد الله بن أم مكتوم المدينة ، ثم ركب صلى الله عليه وسلم فرسه ، وتقلد قوسه ، وأخذ قناة في يده ، وفي المسلمين مائة دارع ، وخرج السعدان أمامه: واستخلف سعد بن معاذ ، والناس على يمينه وشماله ، وعرض من عرض ، ورد من رد ، وكان فيمن رد: وسعد بن عبادة ، ابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وأسيد بن ظهير ، والبراء بن عازب ، وعرابة بن أوس ، وهو الذي قال فيه الشماخ حيث يقول:
رأيت عرابة الأوسي يسمو إلى الخيرات منقطع القرين إذا ما راية رفعت لمجد
تلقاها عرابة باليمين
نحن بنات طارق نمشي على النمارق
إن تقبلوا نعانق أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
فصاح طلحة من يبارز ، فبرز إليه فضربه على رأسه [حتى] فلق هامته - وهو كبش الكتيبة - فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر المسلمون ، ثم شدوا على المشركين ، وحمل لواءهم أخوه علي بن أبي طالب عثمان بن أبي طلحة ، فضربه حمزة بالسيف ، فقطع يده ، ثم حمله أبو سعد بن أبي طلحة [فرماه فقتله ، فحمله سعد بن أبي وقاص مسافع بن طلحة ] فرماه عاصم فقتله ، [ثم حمله الحارث بن طلحة فرماه عاصم فقتله] ثم حمله كلاب بن طلحة فقتله الزبير ، ثم حمله الجلاس بن طلحة فقتله ثم حمله طلحة بن عبيد الله ، أرطأة بن شرحبيل فقتله رضي الله عنه ، ثم حمله [ ص: 165 ] علي شريح بن فارط ، فقتله بعض المسلمين ، ثم حمله صؤاب غلام لهم ، فقتله بعض المسلمين .
فلما قتل أصحاب اللواء انكشف المشركون منهزمين ونساؤهم يدعون بالويل ، وتبعهم المسلمون يضعون فيهم السلاح ، ووقعوا ينتهبون العسكر ويأخذون الغنائم .
فلما رأى الرماة ذلك أقبل جماعة منهم وخلوا الجبل ، فنظر إلى خلاء الجبل وقلة أهله فكر بالخيل ، وتبعه خالد بن الوليد عكرمة فحملوا على من بقي من الرماة فقتلوهم ، وقتلوا أميرهم وانتقضت صفوف المسلمين ، ونادى إبليس: قتل محمد ، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصابة من الصحابة أربعة عشر فيهم عبد الله بن جبير أبو بكر فأصيبت رباعيته وكلم في وجهه .
وفي الذي فعل به ذلك قولان: أحدهما أنه عتبة بن أبي وقاص ، قال : كنت حريصا على قتل سعد بن أبي وقاص عتبة ، فكفاني منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم . الثاني: أنه اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله ابن قميئة فإنه علا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف ، فضربه على شقه الأيمن فاتقاها طلحة بيده فشلت يده .
قال : السدي وابن قميئة هو الذي رمى وجه رسول الله بحجر ، فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه .
أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي ، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري ، قال: أخبرنا عمرو بن حيويه ، قال: أخبرنا ابن معروف ، قال: أخبرنا ابن الفهم ، قال: حدثنا محمد بن سعد ، قال: أخبرنا محمد بن عمر ، قال: حدثني الضحاك بن عثمان ، عن ضمرة بن سعيد ، عن أبي بشر المازني ، قال:
حضرت يوم أحد وأنا غلام فرأيت ابن قميئة علا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف ، فرأيت [ ص: 166 ] رسول الله وقع على كتفيه في حفرة أمامه حتى توارى ، فجعلت أصيح وأنا غلام حين رأيت الناس ثابوا إليه ، فأنظر إلى أخذ يحضنه حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم . طلحة بن عبيد الله ،
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد ، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت ، قال: أخبرنا إبراهيم بن مخلد ، قال: أخبرنا محمد بن إبراهيم الحكيمي ، قال: حدثنا الفتح بن سخرف ، قال: سمعت محمد بن خلف العسقلاني ، قال: سمعت محمد بن يوسف الفريابي يقول:
لقد بلغني أن الذين كسروا رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يولد لهم صبي فثبت له رباعية .
قال علماء السير: رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ، أبو دجانة وكانت النبل تقع في ظهره وهو منحن عليه . وترس
ومر أنس بن النضر على عمر في رجال من المهاجرين والأنصار وهم جلوس ، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: أقتل رسول الله ، قال: فما تصنعون بالحياة قوموا فموتوا على ما مات عليه ، ثم تقدم فقاتل حتى قتل . وطلحة
[قال المصنف رحمه الله] وكان أربعة نفر قد تحالفوا وتعاقدوا يوم أحد : لئن رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلنه أو ليقتلن دونه عمرو بن قميئة ، وأبي بن خلف ، وعبد الله بن شهاب ، وعتبة بن أبي وقاص .
وكان أبي قد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لأقتلنك ، فلما طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن صاح الشيطان: قتل محمد ، رآه أبي ، فقال: لا نجوت إن نجوت ، فقالت الصحابة: أيعطف عليه أحدنا ، فقال: دعوه ، فرماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحربة ، فكسرت ضلعا من أضلاعه .
أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب ، قال: أخبرنا قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة ، قال: حدثنا أبو طاهر المخلص ، أحمد بن سليمان بن داود الطوسي ، قال: حدثنا قال: [ ص: 167 ] الزبير بن بكار ،
قتل أمية بن خلف ببدر ، وكان أخوه أبي بن خلف قد أسر يومئذ ، فلما فدي ، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن عندي فرسا أعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتلك عليه إن شاء الله ، فلما كان يوم أحد وانحاز المسلمون إلى شعب أحد بصر أبي بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمل عليه فشد عليه ومع الزبير بن العوام ، الحربة ، فأخذها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الزبير دعه وشد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه بها ، فدق ترقوته ، وخر صريعا ، وأدركه المشركون ، فارتثوه وله خوار ، فجعلوا يقولون: ما بك بأس ، فيقول: أليس قد قال: أنا أقتلك ، فحملوه حتى مات للزبير: بمر الظهران على أميال من مكة .
قال مؤلف الكتاب: وعلى هذا جميع أهل التاريخ أن الذي قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن خلف ، وأن أمية بن خلف قتل يوم بدر .
وقد روى في صحيحه: البخاري قال سعد بن معاذ لأمية بن خلف : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه قاتلك ، فقال: والله ما يكذب محمد ، فلما سار الناس إلى بدر أراد أن لا يخرج ، فقال له أبو جهل: إنك من أشراف الوادي فسر يوما أو يومين ، فسار حتى قتله الله ببدر . فيحتمل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل أمية يوم أن بدر ، وقتل أبيا يوم أحد ، ويحتمل أن يكون بمعنى قوله: "إنه قاتلك" أي بقتلك أصحابه . والله أعلم ، وقد ذكرنا كيف قتله الصحابة .
قال علماء السير: فقتل فأخذ اللواء ملك في صورته مصعب بن عمير ، . كان اللواء مع
فأخبرنا محمد بن أبي طاهر ، قال: أخبرنا الجوهري ، قال: أخبرنا قال: أخبرنا ابن حيويه ، أحمد بن معروف ، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم ، قال: حدثنا محمد بن سعد ، قال: أخبرنا محمد بن عمر ، قال: حدثني الزبير بن سعد النوفلي ، عن عبد الله بن الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير اللواء يوم أحد ، فقتل مصعب ، فأخذه ملك في صورة مصعب ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له في آخر النهار: " [تقدم] يا [ ص: 168 ] مصعب" ، فالتفت إليه الملك ، فقال: لست بمصعب ، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ملك أيد به . قال علماء السير: قتل يومئذ حمزة ، فوقعت على وجنته ، فجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها بيده ، قتادة بن النعمان ، فكانت أحسن عينيه . وأصيبت عين
قال مؤلف الكتاب: وكان ممن جرح فقاتل حميئة ، ومات وهو معدود من المنافقين .
أخبرنا قال: أخبرنا ابن الحصين ، قال: أخبرنا ابن المذهب ، ابن جعفر ، قال: أخبرنا أبو إسحاق ، عن قال: جعل رسول الله على الرماة يوم البراء بن عازب ، أحد - وكانوا خمسين رجلا - قال: ووضعهم موضعا وقال: عبد الله بن جبير ، الغنيمة أي قوم الغنيمة ، ظهر أصحابكم فما تنظرون ، فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة ، فلما أتوهم صرفت وجوههم ، فأقبلوا منهزمين ، فذلك قوله تعالى: عبد الله بن جبير: والرسول يدعوكم في أخراكم . فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا ، فأصابوا منا سبعين رجلا . إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم ، وإن رأيتمونا ظهرنا على القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم ، قال: فهزموهم ، قال: وأنا والله رأيت النساء يشتددن على الخيل وقد بدت أسواقهن وخلاخيلهن ، رافعات ثيابهن ، فقال أصحاب
بدر أربعين ومائة؛ سبعين أسيرا وسبعين قتيلا ، فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد؟ أفي القوم محمد؟ أفي القوم محمد؟ ثلاثا ، قال: فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه ، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم ، فما ملك عمر نفسه أن [ ص: 169 ] قال: كذبت والله يا عدو الله إن الذين عددتهم لأحياء كلهم ، وقد بقي لك ما يسؤك ، فقال: يوم أحد بيوم بدر والحرب سجال ، إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني ، ثم أخذ يرتجز ويقول: اعل هبل ، اعل هبل .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تجيبوه" ، فقالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال: "قولوا: الله أعلى وأجل" قال: لنا العزى ولا عزى لكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تجيبوه" ، قالوا: يا رسول الله وما نقول؟ قال: "قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم" . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أصاب من المشركين يوم
قال علماء السير: هند في نسوة معها يمثلن بالقتلى ، يجدعن الأنوف والآذان حتى اتخذت وقامت هند من ذلك خدما وقلائد ، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها .
فلما أراد أبو سفيان أن ينصرف ، نادى: موعدكم بدر العام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: "قل نعم بيننا موعد" ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "اخرج في آثار القوم ، فإن اجتنبوا الخيل وامتطوا الإبل ، فإنهم يريدون مكة وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة ، فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأناجزنهم" .
قال رضي الله عنه: فخرجت في آثار القوم ، فاجتنبوا الخيل وامتطوا الإبل وتوجهوا إلى علي مكة .