الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4982 ص: وكان من الحجة لهم أن هذا الحديث قد رواه معمر كما ذكروا، وقد رواه غيره فزاد فيه: "أن تلك المرأة التي كانت تستعير الحلي فلا ترده سرقت فقطعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسرقتها".

                                                فمما روي في ذلك ما حدثنا يونس ، قال: أنا ابن وهب ، قال: أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، أن عروة بن الزبير أخبره، عن عائشة ، - رضي الله عنها -: "أن امرأة سرقت في عهد رسول - صلى الله عليه وسلم - زمن الفتح، فأمر بها رسول الله -عليه السلام- أن تقطع، فكلمه فيها أسامة بن زيد ، - رضي الله عنهما - فتلون وجه رسول الله -عليه السلام- فقال: أتشفع في حد من حدود الله؟ فقال له أسامة: : استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العشي قام رسول الله -عليه السلام- فأثنى على الله ما هو أهله، ثم قال: أما بعد: فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، ، والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".

                                                4983 حدثنا يونس، قال: ثنا شعيب بن الليث ، عن أبيه ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة ، - رضي الله عنها -: " أن قريشا همهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله -عليه السلام-؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة...." ؟ ثم ذكر مثل معناه.

                                                فثبت بهذا الحديث أن القطع كان بخلاف المستعار المجحود.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي وكان من الدليل والبرهان للآخرين: أن الحديث الذي احتجت به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه قد رواه معمر بن راشد كما ذكروا، وقد رواه غير معمر فزاد فيه أن تلك المرأة التي كانت تستعير الحلي وتجحده قد سرقت فقطعها رسول الله -عليه السلام- لأجل سرقتها لا لأجل جحودها فقط.

                                                [ ص: 19 ] وقال الجصاص: لم يقطعها رسول الله -عليه السلام- لأجل جحودها العارية، وإنما قطعها لأجل أنها سرقت، وإنما ذكر جحود العارية تعريفا لها إذ كان ذلك معتادا منها قد عرفت به، وذكر ذلك على وجه التعريف، وهذا مثل ما روي عن النبي -عليه السلام- أنه قال للرجلين أحدهما يحجم الآخر في رمضان: "أفطر الحاجم والمحجوم"، فذكر الحجامة تعريفا لهما والإفطار واقع بغيرها.

                                                قوله: "فمما روي في ذلك" أي فمن الذي روي فيما قلنا بزيادة غير معمر فيه: ما حدثنا يونس، فقوله: "ما حدثنا" في محل الرفع على الابتداء.

                                                وقوله: "فمما روي في ذلك" مقدما خبره.

                                                وأخرجه من طريقين صحيحين رجالهما كلهم رجال الصحيح.

                                                الأول: عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، عن يونس بن يزيد الأيلي ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن عروة ، عن عائشة - رضي الله عنها -.

                                                وأخرجه مسلم: عن أبي الطاهر وحرملة بن يحيى، كلاهما عن ابن وهب ، عن يونس بن يزيد ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة نحوه سواء.

                                                الثاني: عن يونس أيضا، عن شعيب بن الليث ، عن أبيه الليث بن سعد ، عن الزهري ... إلى آخره.

                                                وأخرجه الجماعة من هذا الطريق:

                                                فالبخاري: عن سعيد بن سليمان ، عن الليث ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة: " أن قريشا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم رسول الله -عليه السلام-، ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله -عليه السلام-؟! فكلم رسول الله -عليه السلام-، فقال: أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قام فخطب، فقال: يا أيها الناس، إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا [ ص: 20 ] سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها ".

                                                ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي والنسائي أربعتهم: عن قتيبة ، عن ليث بن سعد .

                                                وابن ماجه: عن محمد بن رمح ، عن ليث بن سعد ...إلى آخره.

                                                وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

                                                وقد روي هذا الحديث عن غير عائشة أيضا، فروي عن مسعود بن الأسود ، عن النبي -عليه السلام- قال: "لما سرقت المرأة تلك القطيفة من بيت رسول الله -عليه السلام-...." الحديث.

                                                أخرجه ابن ماجه .

                                                وروي عن جابر بن عبد الله أيضا: "أن امرأة سرقت، فعاذت بزينب بنت رسول الله -عليه السلام-...." الحديث.

                                                رواه أبو داود .

                                                وأخرجه مسلم والنسائي عن جابر، وفي روايتهما: "فعاذت بأم سلمة زوج النبي -عليه السلام-".

                                                [ ص: 21 ] وروي أيضا عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي -عليه السلام- بها فقطعت يدها".

                                                أخرجه أبو داود، وقال أبو داود: رواه جويرية ، عن نافع ، عن ابن عمر، أو عن صفية بنت أبي عبيد، زاد فيه: "وإن النبي -عليه السلام- قام خطيبا، فقال: هل من امرأة تائبة إلى الله ورسوله؟ ثلاث مرات، وتلك شاهدة، فلم تقم ولم تتكلم".

                                                قال أبو داود: ورواه محمد بن عبد الرحمن بن غنج ، عن نافع ، عن صفية بنت أبي عبيد قال فيه: "فشهد عليها".

                                                قال البيهقي: والحديث الذي يروى عن نافع في هذه كما روى معمر مختلف فيه على نافع، فقيل: عنه عن ابن عمر أو عن صفية بنت أبي عبيد.

                                                وقيل: عنه عن صفية بنت أبي عبيد، وحديث الليث عن الزهري أولى بالصحة، والله أعلم.

                                                فإن قلت: هل هذه قضية واحدة أم هي قضايا مختلفة؟ وهل هي امرأة واحدة أو امرأتان أو أكثر؟

                                                قلت: قد قال بعضهم: إنها امرأة واحدة وقضية واحدة، وإنها سرقت، وإن من روى: "استعارت" قد وهم والدليل على ذلك أن في جمهور هذه الآثار أنهم استشفعوا لها بأسامة بن زيد، وأن رسول الله -عليه السلام- أنكر ذلك عليه، ونهاه أن يشفع في حد من حدود الله تعالى، ومن المحال أن يكون أسامة - رضي الله عنه - قد نهاه رسول الله -عليه السلام- عن أن يشفع في حد من حدود الله تعالى، ثم يعود فيشفع في حد آخر مرة أخرى.

                                                قيل: فيه نظر؛ لأن عبد الرزاق روى: عن ابن جريج ، عن أبيه، عن عكرمة بن خالد المخزومي، أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام [ ص: 22 ] المخزومي، أخبره أن امرأة جاءت أما له، فقالت: إن فلانة تستعيرك حليا وهي كاذبة، فأعارتها إياه فمكثت لا ترى حليها، فجاءت التي كذبت عرفتها فسألتها حليها، فقالت: ما استعرت منك شيئا، فجاءت الأخرى فسألتها حليها فأنكرت أن تكون استعارت منها شيئا، فجاءت النبي -عليه السلام-، فدعاها فقالت: والذي بعثك بالحق ما استعرت منها شيئا، فجاءت الأخرى فسألتها حليها فأنكرت أن تكون استعارت منها شيئا، فقال: اذهبوا فخذوه من تحت فراشها فأخذ، وأمر بها فقطعت". قال ابن جريج: وأخبرني بشير بن تميم أنها أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسود.

                                                قال ابن جريج: لا أجد غيرها، لا أجد غيرها.

                                                قال ابن جريج: فأخبرني عمرو بن دينار، قال: أخبرني الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - قال: "سرقت امرأة فأتي بها النبي -عليه السلام-، فجاءه عمر بن أبي سلمة، فقال للنبي -عليه السلام-: بأبي أنت إنها عمتي، فقال النبي -عليه السلام-: لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها".

                                                قال عمرو بن دينار: فلم أشك حين قال حسن: قال عمر للنبي -عليه السلام-: "إنها عمتي" أنها بنت الأسود بن عبد الأسد.

                                                فهذا ابن جريج يحكي عن عمرو بن دينار أنه لا شك أن التي سرقت بنت الأسود بن عبد الأسد.

                                                ويخبر عن بشير التيمي أن التي استعارت هي بنت سفيان بن عبد الأسد وهما ابنتا عم مخزوميتان، عمهما أبو سلمة بن عبد الأسد زوج أم سلمة قبل رسول الله -عليه السلام-.

                                                قلت: تلك المرأة هي فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بنت أخي أبي سلمة زوج أم سلمة كما ذكرناه.




                                                الخدمات العلمية