الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5930 ص: وهذه الآثار فقد جاءت على معان مختلفة، فأما ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه -، فروى عن النبي -عليه السلام- نهى عن المزارعة، ولم يبين أي مزارعة هي؟

                                                [ ص: 306 ] فإن كانت هي المزارعة على جزء معلوم مما تخرج الأرض، فهذا الذي يختلف فيه هؤلاء المحتجون بهذه الآثار ومخالفوهم.

                                                وإن كانت تلك المزارعة التي نهي عنها هي المزارعة على الثلث والربع، وشيء غير ذلك مما يخرج مما يزرع في موضع من الأرض بعينه، فهذا مما يجمع الفريقان جميعا على فساد المزارعة عليه، وليس في حديث ثابت هذا ما ينفي أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد معنى من هذين المعنيين بعينه دون المعنى الآخر.

                                                وأما حديث جابر بن عبد الله فإنه قال فيه: "كان لرجال منا فضول أرضين، وكانوا يؤاجرونها على النصف والثلث والربع، فقال رسول الله -عليه السلام-: من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه، فإن أبي فليمسك".

                                                ففي هذا الحديث أنه لم يجز لهم إلا أن يزرعوها بأنفسهم أو يمنحوها من أحبوا، ولم يبح لهم في هذا الحديث غير ذلك، فقد يحتمل أن يكون ذلك النهي كان على أن لا تؤاجر بثلث ولا بربع ولا بدراهم ولا بدنانير ولا بغير ذلك، فيكون المقصود إليه بذلك النهي: هو إجارة الأرض، وقد ذهب قوم إلى كراهة إجارة الأرض بالذهب والفضة.

                                                حدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا أبو عمر ، قال: ثنا حماد بن زيد ، قال: أخبرني عمرو بن دينار ، قال: " كان طاوس يكره كراء الأرض بالذهب والفضة".

                                                فهذا طاوس يكره كراء الأرض بالذهب والفضة، ولا يرى بأسا بدفعها ببعض ما تخرج، وسنخبر بذلك فيما بعد إن شاء الله.

                                                فإن كان النهي الذي في حديث جابر وقع على الكراء أصلا بشيء مما تخرج وبغير ذلك، فهذا معنى يخالفه الفريقان جميعا.

                                                وقد يحتمل أن يكون النهي وقع لمعنى غير ذلك، فنظرنا هل روى أحد عن جابر في ذلك شيئا يدل على المعنى الذي كان من أجله كان النهي؟

                                                [ ص: 307 ] 5931 فإذا يونس قد حدثنا، قال: ثنا عبد الله بن نافع المدني ، عن هشام بن سعد ، عن أبي الزبير المكي ، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله -عليه السلام- بلغه أن رجالا يكرون مزارعهم بنصف ما يخرج منها، وبثلثه بالماذيانات، فقال في ذلك رسول الله -عليه السلام-: من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه، فإن لم يفعل فليمسكها".

                                                5932 حدثنا يونس ، قال: ثنا ابن وهب ، قال: أخبرني هشام بن سعد ، أن أبا الزبير المكي ، حدثه، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: " كنا في زمن رسول الله -عليه السلام- نأخذ الأرض بالثلث أو الربع بالماذيانات، فنهى رسول الله -عليه السلام- عن ذلك".

                                                5933 حدثنا سليمان بن شعيب ، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد ، قال: ثنا زهير بن معاوية ، عن أبي الزبير ، عن جابر، قال: "كنا نخابر على عهد رسول الله -عليه السلام- فنصيب من كذا، فقال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليجريها أخاه وإلا فليدعها".

                                                فأخبر أبو الزبير في هذا عن جابر بالمعنى الذي وقع النهي من أجله، وأنه إنما هو لشيء كانوا يصيبونه في الإجارة، فكأن النهي من قبل ذلك جاء، وقد يحتمل أن يكون معنى حديث ثابت بن الضحاك الذي ذكرنا كذلك، والله أعلم.

                                                وأما حديث رافع بن خديج فقد جاء بألفاظ مختلفة اضطرب علينا من أجلها. فأما حديث ابن عمر عنه فهو مثل حديث ثابت بن الضحاك: " ؛ أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن المزارعة"، فهو يحتمل أيضا ما وصفنا من معاني حديث ثابت على ما ذكرنا وبينا، وأما من رواه على مثل ما روى جابر، فيحتمل أيضا ما وصفنا مما يحتمله حديث جابر - رضي الله عنه -.

                                                التالي السابق


                                                ش: لما أخرج الأحاديث المذكورة عن أربعة أنفس من الصحابة وهم: رافع بن خديج ، وعبد الله بن عمر ، وثابت بن الضحاك ، وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم -، وكانت مختلفة الألفاظ متباينة المعاني، ولم يكن بينا فيها ما الذي نهى عنه، ولا [ ص: 308 ] المعنى الذي وقع النهي لأجله، فلذلك كثر اختلاف أقاويل العلماء فيه، شرع الآن يبين معنى كل واحد منها، فقال: وأما ثابت بن الضحاك ... إلى آخره، وأكثره ظاهر.

                                                فقوله: "هؤلاء المحتجون" إشارة إلى ما ذكره من قوله: "فذهب قوم إلى هذه الآثار" وهم: عطاء ، ومجاهد ، ومسروق، ومن ذكرناهم معهم.

                                                قوله: "ومخالفوهم" أراد بهم: الليث بن سعد ، والأوزاعي ، والثوري ، وأبا يوسف ، ومحمدا، ومن ذكرنا معهم.

                                                قوله: "وقد ذهب قوم إلى كراهة إجارة الأرض" أراد بهم: عطاء ، وطاوس بن كيسان ، ومجاهدا ، والقاسم بن محمد، وآخرين؛ فإنهم كرهوا إجارة الأرض بالنقدين.

                                                وأخرج في ذلك لبيان مذهب طاوس بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن أبي عمر حفص بن عمر ، عن حماد بن زيد ، عن عمرو بن دينار المكي ، عن طاوس .

                                                وأخرجه النسائي فقال: أنا محمد بن عبد الله بن المبارك، نا زكرياء بن عدي، أنا حماد بن زيد ، عن عمرو بن دينار، قال: "كان طاوس يكره أن يؤاجر أرضه بالذهب والفضة، ولا يرى بالثلث والربع بأسا...."، وإليه ذهب أهل الظاهر. وقال ابن حزم: وهذا نص قولنا.

                                                قوله: "فإذا يونس...." إلى آخره أخرج هذا من ثلاث طرق:

                                                الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري ، عن عبد الله بن نافع المدني -فيه مقال- عن هشام بن سعد المدني ، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي ، عن جابر بن عبد الله .

                                                [ ص: 309 ] وأخرجه البيهقي في "سننه": من حديث هشام بن سعد، أن أبا الزبير حدثه، سمعت جابرا يقول: "كنا في زمان رسول الله -عليه السلام- نأخذ الأرض بالثلث أو الربع بالماذيانات، فقام رسول الله -عليه السلام-، فقال: من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه، فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها".

                                                قوله: "وبالماذيانات" قال الإمام: الماذيانات ما ينبت على الأنهار الكبار، وليس بالعربية، ولكنها سوادية، والسواقي دون الماذيانات.

                                                وقال القاضي: ضبطنا هذا الحرف في كتاب مسلم بكسر الذال، وضبطناه عن بعض شيوخنا في غير مسلم بفتحها، قيل: هي مسالات المياه، وقال سحنون: الماذيانات ما نبتت على حافتي سبيل الماء، وقيل: ما نبتت حول السواقي من الخصب.

                                                الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى أيضا، عن عبد الله بن وهب ، عن هشام بن سعد ، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي ، عن جابر .

                                                وأخرجه مسلم: عن أبي الطاهر وأحمد بن عيسى جميعا، عن ابن وهب -قال ابن عيسى: ثنا عبد الله بن وهب- قال: حدثني هشام بن سعد، أن أبا الزبير المكي حدثه، قال: سمعت جابر بن عبد الله، يقول: "كنا في زمن رسول الله -عليه السلام- نأخذ الأرض بالثلث أو الربع، بالماذيانات، فقام رسول الله -عليه السلام- في ذلك، فقال: من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه، فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها".

                                                الثالث: عن سليمان بن شعيب الكيساني ، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي ، عن زهير بن معاوية ، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي ، عن جابر .

                                                وهذا إسناد صحيح.

                                                [ ص: 310 ] وأخرجه مسلم أيضا: نا أحمد بن يونس، قال: نا زهير، قال: نا أبو الزبير ، عن جابر، قال: "كنا نخابر على عهد رسول الله -عليه السلام- فنصيب من القصري ومن كذا، فقال رسول الله -عليه السلام-: من كانت له أرض فليزرعها أو ليجريها أخاه وإلا فليدعها".

                                                قوله: "نخابر" من المخابرة وهي المزارعة.

                                                قوله: "من القصري" بكسر القاف والراء وصاد مهملة. وعن الطبري: بفتح القاف والراء مقصور. وعن ابن الحذاء: بضم القاف مقصور، والصواب الأول، قال أبو عبيد: القصارة ما بقي من الحبوب في السنبل، وقال ابن دريد: القصارة ما بقي في السنبل بعد ما يداس، وأهل الشام يسمونه: القصري.




                                                الخدمات العلمية