الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر الحوادث سنة إحدى عشرة من النبوة

[بدء إسلام الأنصار] من ذلك:

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم يعرض نفسه على القبائل كما كان يصنع في كل موسم ، فبينا هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج فقال: "من أنتم؟" قالوا: من الخزرج . قال: "أفلا تجلسون أكلمكم؟" . قالوا: بلى .

فجلسوا معه ، فدعاهم إلى الله عز وجل ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، وكان أولئك يسمعون من اليهود أنه قد أظل زمان نبي يبعث ، فلما كلمهم قال بعضهم لبعض: والله إنه النبي الذي يعدكم به يهود ، فلا تسبقنكم إليه . فأجابوه وانصرفوا راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا ،
وكانوا ستة وهم:

أسعد بن زرارة ، وعوف بن الحارث - وهو ابن عفراء - ورافع بن مالك بن العجلان ، [ وقطبة بن عامر بن حديدة ] ، وعقبة بن عامر بن نابي ، وجابر بن عبد الله بن رئاب . [ ص: 21 ]

[فلما قدموا] المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله ، ودعوهم إلى الإسلام حتى [فشا] فيهم ، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وروى أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري قال: أخبرنا أبو أحمد العسكري قال: أخبرنا صالح بن أحمد بن أبي مقاتل البغدادي قال: أخبرنا عبد الجبار بن كثير بن سيار التميمي قال: حدثنا محمد بن بشران الصنعاني قال:

أخبرنا أبان بن عبد الله البجلي ، عن أبان بن ثعلب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال: حدثنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:

لما أمر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب ، خرج وأنا معه ، وأبو بكر ، حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب ، فتقدم أبو بكر فسلم ، ووقفت أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال علي: وكان أبو بكر مقدما في كل خير ، وكان رجلا نسابة ، فقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة . قال: وأي ربيعة أنتم؟ قالوا: ذهل الأكبر . قال أبو بكر: أمن هامتها أو من لهازمها؟ قالوا: بل من هامتها العظمى . قال: فمنكم عوف الذي يقال له: لا حر بوادي عوف؟ قالوا: لا . قال: فمنكم بسطام بن قيس أبو اللواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا . [قال: فمنكم جساس بن مرة حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا] قال: فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا . قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا . قال: فمنكم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا . قال: فمنكم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا . قال: فلستم [من] ذهل [ ص: 22 ] الأكبر ، أنتم [من] ذهل الأصغر . فقام إليه غلام من بني شيبان يقال له: دغفل حين بقل عارضه ، فقال:


إن على سائلنا أن نسأله والعبو لا تعرفه أو تحمله

[يا هذا ، إنك قد سألتنا] فأخبرناك ، ولم نكتمك شيئا ، فممن الرجل؟ فقال أبو بكر: من [قريش . فقال الفتى:] بخ بخ أهل الشرف والرئاسة ، فمن أي قريش أنت؟ قال: من [ولد تيم بن] مرة . فقال الفتى: أمكنت والله الرامي من سواء النقرة ، فمنكم [قصي] الذي جمع القبائل من فهر ، فكان يدعى في قريش مجمعا . قال: لا . قال: فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه فقيل فيه: (بيت)


عمرو العلا هشم الثريد لقومه     ورجال مكة مسنتون عجاف

قال: لا . قال: فمنكم شيبة الحمد [عبد المطلب] مطعم طير السماء الذي كان وجهه يضيء في الليلة الظلماء . قال: لا . قال: أفمن الندوة أنت؟ قال: لا . قال: [أفمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا . قال: فمن أهل السقاية أنت؟ قال: لا] قال: فمن أهل الإفاضة بالناس أنت؟ قال: لا .

وزاد غيره: قال: فأنت إذا من زمعات قريش .

قال: فاجتذب أبو بكر زمام الناقة ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال الغلام: [ ص: 23 ]

صادف در السيل درا يدفعه     يهيضه حينا وحينا يصدعه

أما والله لو ثبت . فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال علي رضي الله عنه: فقلت: يا أبا بكر ، لقد وقعت من الأعرابي على باقعة .

قال: أجل يا أبا الحسن ، ما من طامة إلا وفوقها طامة ، والبلاء موكل بالمنطق .

قال: فدفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار ، فتقدم أبو بكر فسلم ودنا ، فقال: ممن القوم؟ قالوا: من شيبان بن ثعلبة .

فقال: يا رسول الله ما وراء هؤلاء من قومهم شيء ، هؤلاء غرر الناس ، وفيهم: مفروق بن عمرو ، وهانئ بن قبيصة ، والمثنى بن حارثة ، والنعمان بن شريك . فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ قال مفروق: إنا لنزيد على ألف ، ولن تغلب ألف من قلة . فقال أبو بكر: فكيف المنعة فيكم؟ قال: علينا الجهد ولكل قوم جهد . قال: كيف الحرب بينكم؟ قال: إنا لأشد ما نكون غضبا حين نلقى ، وأشد [ما نكون لقاء حين نغضب] وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد ، والسلاح على اللقاح [ ، والنصر من الله] عز وجل يديلنا مرة ويديل علينا أخرى ، لعلك أخو [قريش . قال أبو بكر] رضي الله عنه: وقد بلغكم أنه رسول الله فها هو ذا . قال مفروق: بلغنا أنه يذكر ذلك ، فإلى ما يدعو يا أخا قريش؟

فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلس ، وقام أبو بكر يظله بثوبه ، فقال:

"أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأني رسول الله ، وإلى [ ص: 24 ] أن تؤوني وتنصروني ، فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسله ، وامتنعت بالباطل عن الحق والله هو الغني الحميد" .

فقال مفروق: وإلى ما تدعونا أيضا؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا الآية .

فقال مفروق : إلى ما تدعونا أيضا؟ فوالله ما سمعت كلاما هو أجمل من هذا ، ولو كان من كلام أهل الأرض لفهمناه .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يأمر بالعدل والإحسان الآية .

فقال مفروق : دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك ، وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا .

فقال ابن قبيصة : قد سمعت مقالتك يا أخا قريش ، وإني أرى تركنا ديننا واتباعنا إياك ، ولكن نرجع وترجع ، وننظر وتنظر ، وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا .

فقال المثنى: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش ، والجواب جواب هانئ بن قبيصة ، وإنا إنما نزلنا بين صريي اليمامة .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما هاتان الصريان؟" .

قال: مياه العرب ما كان منها مما يلي [أنهار] ( كسرى فذنب صاحبه غير مغفور ، وعذره غير مقبول ، وإنما نزلنا على عهد أخذه كسرى علينا ، أن لا نحدث حدثا ، ولا نؤوي محدثا ، فأنا أرى أن هذا [الأمر] الذي تدعونا إليه تكرهه الملوك ، [فإن [ ص: 25 ] شئت نؤويك] وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا .

فقال رسول [الله صلى الله عليه وسلم] وسلم: "ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق ، وإن دين الله تعالى لن ينصره إلا من [أحاطه من جميع] جوانبه ، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم ، أتسبحون الله وتقدسونه؟" .

فقال النعمان بن شريك: اللهم لك ذلك .

فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا . ثم نهض قابضا على يد أبي بكر وهو يقول: "أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها ، يدفع الله بها بأس بعضهم عن بعض وبها يتحاجزون فيما بينهم" .

فما برحنا حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا صدقا صبرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية