الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الأول: صيغ المعاملات

نقتصر في هـذا المبحث على تناول موضوع معاملات البنوك الإسلامية بصورة عامة، أما تفصيل الصيغ من الناحية الشرعية فسيأتي الحديث عنه في الباب الثاني: (بين الاجتهاد والتقليد).

ونقصد بالصورة العامة هـنا التنبيه إلى عدة نواح هـامة:

أولا: إن القوانين التي تحكم عمل البنوك في كل البلاد تمنع هـذه البنوك من أي نشاط تتعرض معه أموال المودعين للخطر؛ فعملية الاتجار شراء وبيعا، وكذلك عمليات المشاركة في الربح والخسارة ممنوعة على البنوك، وإنما المباح لها فقط هـو الإقراض بفائدة؛ بحيث يكون أصل القرض وفائدته مضمونين.

وتأتي البنوك الإسلامية ملتزمة بحكم القرآن الكريم: ( ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) ) سورة البقرة (275) المناقض في شقيه للقواعد التي تحكم نشاط البنوك التقليدية.

وأمام هـذا الفارق الجوهري يلزم أن تنص القواعد الحاكمة لنشاط البنوك الإسلامية على التصرفات التي يجوز لها أن تباشرها، والتصرفات التي لا يجوز لها أن تباشرها.

وهنا يرد السؤال: ألا يكفي أن نبقي في إطار النهي القرآني، فنحرم أي معاملة ربوية، ونبيح للبنوك جميع المعاملات الأخرى الجائزة شرعا؟

أما الشق الأول فلا مجال لمخالفته؛ لأن التحريم عام؛ يشمل البنوك والشركات والأفراد على حد سواء.

ولكن الشق الثاني يحتمل المناقشة؛ إذ لا مانع - شرعا – من أن يراعي المشرع أو المتعاقدون ظروف المؤسسة التي يقومون بتنظيمها؛ فيمنعونها من بعض [ ص: 79 ] التصرفات التي هـي في الأصل جائزة شرعا ولكن مصلحة المؤسسة والمتعاملين معها تدعو إلى تجنبها كليا أو تقييدها جزئيا على النحو الذي سنبحثه في المبحث التالي.

ثانيا: الناحية الهامة الأخرى التي يلزم التنبيه إليها هـي أن البنوك شيء والشركات التجارية والصناعية والزراعية شيء آخر.

ولو كان الغرض من إنشاء البنوك الإسلامية هـو ممارسة هـذه الأنشطة لكان بالإمكان إنشاء شركات تقوم بهذا النشاط مباشرة، ولكن الفكرة الرئيسة من إنشاء البنك الإسلامي هـي إنشاء ((بنك))، وهنا يلزم أن نتوقف قليلا عند تعريف البنك، وتحديد وظيفته.

وقد اختلفت الآراء في تعريف البنوك، ولعل أطرفها هـو الذي يقول إنها: المؤسسات التي تقوم بالأعمال المصرفية.

ومما لا شك فيه أن البنوك على اختلاف أنواعها تقوم أساسا بتجميع الودائع واستثمارها، وإذا كانت طريقة البنوك التقليدية أنها في الحالتين تمارس ذلك على أساس الفائدة، أي أن علاقتها بالطرفين (المودع ومستخدم الأموال) هـو القرض بفائدة، وهو ما تختلف فيها عنها البنوك الإسلامية اختلافا جذريا، إلا أن هـذا الاختلاف لا يتعدى طريقة معاملة الطرفين (المودع ومستخدم الأموال) إلى الغرض من المؤسسة ذاتها، وإلا لكنا أمام مؤسسة مختلفة نوعيا، ولما كان هـناك داع لإدراجها تحت تصنيف البنوك.

فما هـو غرض البنك ووظيفته الرئيسة؟

إن وظيفة البنوك الرئيسة هـي الوساطة بين المدخرين والمستثمرين.... وحين كان المدخر يستطيع أن يقوم باستثمار الفائض عن حاجته بنفسه، أو يعرف من يعهد إليه باستثماره، سواء بإقراضه إياه أو بمشاركته في نتيجة نشاطه لم تكن هـناك حاجة إلى مؤسسات وسيطة كالبنوك.

ولكن الذي جد – خلال القرنين الماضيين – أن تعقد الأنشطة الاستثمارية أصبح يصعب معه على الشخص العادي إذا توافرت لديه بعض المدخرات أن [ ص: 80 ] يقوم باستثمارها بنفسه، كما أن فقدان الثقة بين أفراد المجتمع – نتيجة الانتقال من مجتمع القبيلة والقرية إلى مجتمع المدينة فالدولة فالسوق العالمي مؤخرا – قد جعل من الصعب أن يجد الشخص العادي من يثق في خبرته وأمانته كي يعهد إليه باستثمار أمواله حتى يقرضه إياه.

وهنا جاءت المؤسسات الوسيطة لتنوب عن المدخرين في توجيه مدخراتهم إلى المستثمرين الذين هـم في حاجة إليها.

فالوظيفة الأساسية التي ينبغي أن يستهدف البنك – أي بنك – القيام بها هـي ممارسة هـذه الوساطة.

ثالثا: وإذا استبعدنا علاقة الدائنية والمديونية التي تتسم بها أعمال البنوك التقليدية؛ حيث تكون مدينة للمودعين ودائنة للمقترضين، فمن الممكن تصور قيام البنك الإسلامي بوظيفة الوساطة من خلال الإطارين التاليين:

1 – إطار الوكالة الخاصة: حيث يتلقى البنك المدخرات كوديعة مخصصة لاستثمارها في مشروع معين أو قطاع معين؛ بعد أن يقتنع المودع به ويوكل البنك في الإشراف نيابة عنه على هـذا الاستثمار. فالمودع في هـذا الإطار يتحمل مخاطر المشروع أو القطاع الذي اختاره، ولا يقيد البنك بمدة معينة إذ يرتبط في أرباحه ومدة استثماره بالمشروع.

2 – إطار الوكالة العامة – أو المضاربة إن أخذنا بالصيغة الفقهية المعروفة بهذا الاسم – حيث يتلقى البنك المدخرات لاستثمارها فيما يراه من وجوه الاستثمار، ودون أي قيد من جانب المودع سوى قيد المدة التي يرغب بعدها في استرداد ماله. فالمودع في هـذا الإطار يقيد البنك من حيث المدة ولكن يفوضه من حيث المخاطر التي يتعرض لها ماله، وهو على ثقة من أن للبنك الخبرة والأجهزة التي تجعله أهلا لهذه الثقة؛ إذ الأصل أن البنك يستثمر الأموال المعهودة إليه استثمارا حريصا يكتفي فيه بالدخل المعقول؛ دون تعريضها لمخاطر غير محسوبة جريا وراء الأرباح الطائلة. [ ص: 81 ]

رابعا: وإذا نظرنا إلى علاقة البنك الإسلامي بمستخدمي الأموال وجدنا أنها لا تكاد تخرج عن الأطر الثلاثة التالية:

1 – الإطار التقليدي: حيث يقوم البنك بتمويل عملائه الذين يقوم بالنشاط الاقتصادي من تجارة وصناعة زراعة وخدمات... إلخ.

والفارق هـنا ما بين البنك الإسلامي والبنك التقليدي أن الأول لا يمول عملاءه في صورة قروض بفوائد، وإنما من خلال إحدى الصيغ الجائزة شرعا على النحو الذي سنبحثه في الباب الثاني.

2 – الإطار الذي يقوم به البنك بإنشاء شركات تابعة متخصصة في مختلف القطاعات الاقتصادية، ويقوم البنك بتمويل عملياتها؛ إذ تمنعها القوانين المصرفية عادة من الاستثمار بهذه الطريقة، أو تمدها بنسبة معينة من رأس مالها حتى تحصر المخاطرة في أصحاب البنك دون مودعيه.

3 – الإطار الذي يقوم فيه البنك بالعملية الاقتصادية مباشرة لحسابه، سواء في مجال تجارة السيارات أو المواد الغذائية أو العقارات أو الإسكان أو غير ذلك؛ حيث يكون البنك هـو المشتري والبائع والمؤجر... إلخ.

وهذه الصورة – وإن مارستها بعض البنوك بشيء من التوسع – إلا أنه ليس من المستحسن سلوك هـذا السبيل للبنوك الإسلامية؛ إذ يخرج بها عن وظيفة الوساطة حيث تصبح منافسة لعملائها الذين يقومون بهذه الأنشطة ويحتاجون إلى خدمات البنوك المصرفية والتمويلية.

ونزول البنوك الإسلامية إلى ميدان التجارة المباشر يثير مسألة هـامة؛ هـي المنافسة غير المشروعة؛ حيث إن البنك باطلاعه على أسرار عملائه التجارية عند فتح اعتماداتهم المستندية يمتنع عليه أن يستخدم هـذه المعلومات – التي يحصل عليها بحكم وظيفته – لمصلحته الشخصية، وينافس بها عملاءه الذين ائتمنوه على هـذه المعلومات. [ ص: 82 ]

خامسا: إن ما تتضمنه القوانين المصرفية عادة من قواعد تستهدف تحديد المخاطر التي تتعرض لها البنوك التقليدية وتتمثل عادة في النسب التي تتقيد بها البنوك في معاملاتها على النحو الذي سنبحثه في المبحث التالي – رغم انحصار نشاطها في معاملاتها الدائنية والمديونية مع كافة الضمانات التي تأخذها لصيانة حقوقها - ينبغي التشديد فيها وتنويع صورها بما يناسب الصيغ التي تستعملها البنوك الإسلامية، والتي هـي بطبيعتها على درجة أعلى من المخاطر، وبالتالي تحتاج إلى درجة أعلى من الحيطة والحذر، حرصا على أموال المودعين الذين مع قبولهم مبدأ المشاركة في أرباح البنك وخسائره لا يرغبون بالمجازفة بأموالهم في عمليات غير محسوبة العواقب، فالمقياس المطلوب من البنك الإسلامي مراعاته هـو مقياس الرجل الخبير الحريص، وليس مقياس الرجل العادي.

والذي يمكن اقتراحه في هـذا الخصوص – وقد أخذت به بالفعل بعض البنوك الإسلامية – هـو تخصيص سلتين للاستثمارات؛ إحداهما خاصة بالاستثمارات ذات الدرجة العالية من المخاطرة، ويقتصر الاستثمار فيها على أموال المساهمين (أي من رأس مال البنك) والودائع المخصصة برضا أصحابها لهذه الاستثمارات المحظورة، والأخرى للاستثمارات المحدودة المخاطر والتي تستثمر فيها الودائع العامة، ونسبة رأس المال، والودائع المخصصة لاستثمارات غير محظورة ويقتضي تقسيم هـاتين السلتين بطبيعة الحال أن تتنوع الأرباح (أو الخسائر) الناتجة عن كل منها، ويختص بها أصحاب الأموال المستخدمة فيها.

سادسا: إن ما تقتضيه ضرورات التخطيط في حياة الأفراد والمؤسسات في الوقت الحاضر من توافر بعض الأموال فترة من الزمن، والحاجة إليها فترة أخرى دعا إلى استحداث نظام الودائع المحددة الأجل غير المرتبطة بنهاية مشروع محدود وتصفية حساباته وتحصيل مستحقاته، ومن هـنا كانت مهمة المؤسسات الوسيطة أن ترتب استثماراتها بصورة تمكنها من رد الودائع إلى [ ص: 83 ] أصحابها في موعد استحقاقها، بل في بعض الأحيان قبل موعد استحقاقها، فضلا عن تمكنها من رد الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) في أي وقت مع الاستفادة منها باستثمارها في الوقت ذاته.

وقد طورت البنوك التقليدية أدواتها بحيث تقوم باستخدام الأموال المتاحة لها؛ مراعية أن توافق الآجال بين مدد الودائع ومدد القروض، وسهل عليها هـذه المهمة أن علاقتها بمستخدمي الأموال علاقة دائن بمدين لأجل محدد.

وبالرغم من هـذه السهولة النسبية في ترتيب البنوك التقليدية للسيولة إلا أنها كثيرا ما تقع في أزمات سيولة ناتجة عن استثمار الودائع القصيرة الأجل في قروض طويلة الأجل، مخالفة بذلك إحدى القواعد الذهبية للعمل المصرفي، يشجعها على ذلك الأمل في تجديد بعض المودعين لمدد ودائعهم، ذلك الأمل المبني في غالب الأحوال على استقراء خبرتها مع عملائها على مدى السنين.

وتختلف حالة البنوك الإسلامية اختلافا جذريا عن البنوك التقليدية في أنها لا تقدم الأموال قروضا لآجال محددة، بل تقوم بتمويل مشروعات حقيقية يصعب في معظم الأحيان انضباط مواعيد تصفيتها وتحصيل ناتجها (تنضيدها، بالمصطلح الفقهي) مهما كانت تنبؤات دراسات الجدوى وبرامج التنفيذ.

ويترتب على ذلك صعوبة إيجاد السيولة اللازمة في الوقت المناسب لرد الوديعة عند مواعيد استحقاقها.

وإذا كانت البنوك الإسلامية – في الواقع – لم تقابل هـذه الصعوبة، فإن مرجع ذلك إلى ظروف خارجة عن طبيعة نظامها وترتيبات السيولة لديها، إذ إنها لحسن حظها تشكو عن توافر السيولة – لا من عجزها – نتيجة تدفق الودائع لديها بما يزيد عن أضعافا عن إمكانات استخدامها، في بلاد مصدرة لرءوس الأموال كدول النفط؛ أو في بلاد مستوردة لرءوس الأموال كمصر والسودان.

فحالة توافر السيولة – أو فائض السيولة – القائمة لدى بعض البنوك الإسلامية تثير مشكلة أخرى سنعرض لها في الفقرة التالية، ولا يجوز أن تصرفنا عن المشكلة الكامنة في طبيعة النظام نفسه، والتي تستلزم إيجاد ضوابط في صيغ [ ص: 84 ] الاستثمار التي تستعملها البنوك الإسلامية تكفل توافق الآجل، وتسييل بعض أصول البنك في حالة تعذر توافق الآجال.

وتنعكس هـذه الضرورة في الأمور التالية:

1 – اعتماد مبدأ توافق الآجال بصفة أساسية، واختيار الصيغ التي تحقق هـذا المبدأ.

2 – تطوير الصيغ المستعملة؛ بإضافة الشروط والخيارات والبدائل التي تكفل خروج البنك الإسلامي من العملية الاستثمارية قبل نهايتها لتحقيق السيولة التي قد يحتاج إليها.

3 – تطوير أدوات وأجهزة السوق الثانوي وهي التعبير الطبيعي عن الخروج من الاستثمار قبل نهاية مدته بحلول مستثمر آخر محل المستثمر الراغب في الخروج.

سابعا: إن توافر فائض في الودائع لأجل عن الاستثمارات لدى بنك إسلامي قد يمثل مشكلة – عند مراعاة توافق الآجال – تتمثل في عدم التوافر الفوري لمشروعات استثمارية مدروسة ومقبولة وفقا للمعايير التي يضعها البنك في هـذا الصدد، وهنا لا يجوز التضحية بهذه الاعتبارات والتنازل عن بعضها في سبيل تشغيل الأموال المتاحة، إذ إنه – في النظرة البعيدة – يكون تعطيل الأموال بعض الوقت أفضل من ضياعها في مشروعات لا تتوافر فيها المعايير المقررة.

وهنا يحسن إيراد بعض المبادئ التي تعين في هـذا الصدد:

1 – من الممكن دائما استثمار بعض الأموال الفائضة ذات الطبيعة الطويلة أو المتوسطة الأجل في استثمارات قصيرة الأجل لسد فجوة زمنية معينة؛ ريثما تتوافر الاستثمارات الطويلة، أو المتوسطة المناسبة؛ والعكس غير صحيح، فمن المخاطرة الشديدة استثمار أموال قصيرة الأجل في استثمارات طويلة لا يمكن تسييلها والخروج منها عند الضرورة.

2 – من المستحسن أن تتوافر لدى البنك مشروعات جيدة ومدروسة في [ ص: 85 ] انتظار توافر الأموال؛ بدلا من أن تضطر الأموال إلى الانتظار ريثما تتوافر المشروعات المناسبة.

وتثير هـذه المسألة قضية أساسية في البنوك الإسلامية؛ هـي حاجتها الشديدة إلى عدد كبير من الاقتصاديين والمحاسبين والمحللين الماليين والخبراء في عدة ميادين؛ بما يمكن البنك من الدراسة المستوفاة للمشروعات التي تقدم إليه، بل ومن المبادأة بإعداد مشروعات مناسبة لخطة البنك الاستثمارية.

وهذا العدد من الخبراء لا يلزم بالضرورة أن يكون كله من المتفرغين لعمل البنك؛ إذ قد لا يحتاج البنك لبعض التخصصات إلا من حين إلى آخر؛ فهنا يستعان بهم عند الحاجة، ولكن يبقى صحيحا أن البنك الإسلامي بحاجة إلى أضعاف ما يحتاجه البنك التقليدي من خبراء دراسة المشروعات؛ مما يجعل تكلفة التمويل مرتفعة في البنك الإسلامي عن غيره من هـذه الناحية.

3 – من الضروري ترتيب نظام للتعاون بين البنوك الإسلامية يكفل توافر المعلومات عن مجموعة المشروعات طالبة التمويل – والمستوفية لمعايير معينة تتفق عليها البنوك الإسلامية – لدى كل البنوك وذلك بإنشاء مركز معلومات مشترك لخدمة البنوك الإسلامية كلها، كما يلزم اعتماد البنوك بعضها على بعضها الآخر في دراسة وتقييم المشروعات؛ حتى لا تتكرر الجهود المكلفة في هـذا الصدد، ويلزم أخيرا أن ترتب طريقة التمويل المشترك من عدة بنوك في مشروع واحد؛ على النحو الذي تمارسه البنوك التقليدية في القروض المشتركة (مع فارق عدم التعامل بالفائدة بطبيعة الحال).

ثامنا: وإذا كانت فوائض الودائع لأجل تمثل مشكلة على النحو السابق بيانه، فإن فوائض الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية ودفاتر التوفير) تثير مشكلة أشد تعقيدا وصعوبة كما يتضح من النقاط التالية: [ ص: 86 ]

1 – إن الودائع الجارية أموال مضمونة في ذمة البنك، وينطبق عليها حكم الوديعة بالمفهومين الشرعي والقانوني؛ من حيث التزام البنك بالمحافظة عليها وردها عند الطلب كاملة غير منقوصة، بل إن الأصل فيها أن المودع لديه وهو البنك يحق له طلب عوض عن جهد حفظها وحراستها، إلا أن كون هـذه الأموال مثلية لا يلتزم البنك بردها بعينها – إلا في الإبداعات في الخزائن المستأجرة لهذا الغرض – وإنما يرد مثلها وتبقى هـي دينا في الذمة، فإن ذلك يتيح للبنك أن يستثمرها لحسابه الخاص وعلى مسئوليته.

وبقدر زيادة حجم هـذه الحسابات الجارية بقدر ما تحقق البنوك أرباحا لمساهميها الذين يستفيدون في نهاية المطاف من عائد استثمار هـذه الأموال، ولذلك دأبت البنوك على تشجيع هـذا النوع من الحسابات الجارية بمختلف المرغبات؛ بل أصبحت في بعض البلاد تدفع فوائد على الحسابات الجارية مما تنقلب معه طبيعة هـذه الحسابات بالمفهوم القانوني من وديعة إلى قرض بفائدة، وإن كان المفهوم الشرعي عاما في تحريم الفائدة في كل المعاملات.

ولا تختلف البنوك الإسلامية عن غيرها في حرصها على زيادة حجم الحسابات الجارية واستثمارها لحسابها طالما أنها مضمونة لا يستحق صاحبها ربحا ولا يتحمل خسارة.

وقد اتجهت بعض البنوك الإسلامية – تورعا – إلى الحصول على إذن صاحب الحسابات الجارية – في أنموذج طلب فتح الحساب – في استثمار ماله لحساب البنك وعلى مسؤوليته.

كما اتجهت بنوك إسلامية أخرى إلى توزيع مكافآت – غير مشترطة مقدما – على أصحاب الحسابات الجارية عند تحقيق أرباح مجزية للبنك مراعاة لدور هـذه الحسابات الجارية في تحقيق هـذه الأرباح، ومن باب التشجيع للحسابات الجارية. [ ص: 87 ]

وهنا تثور الشبهة في أن هـذا التوزيع – مع تكرر حدوثه عاما بعد عام، ومع النية الكامنة خلفه في تشجيع المودعين – يصبح أمرا ملحوظا وإن لم يكن مشروطا، وينسحب عليه حكم التحريم لشبهة الربا فيه.

والمخرج في رأيي من هـذه الشبهة هـو في التفريق بين نوعين من الحسابات يكون أحدهما مضمونا ولا توزع عليه أية مكافآت، ويكون الثاني مشاركا يتحمل نسبته في الربح والخسارة.

يبقى بعد ذلك المشكل الرئيس في كيفية استثمار هـذه الأموال ذات الأجل القصير جدا بما يحقق ربحا ولو ضئيلا، وبما يحقق في الوقت نفسه – وهذا هـو المشكل – السيولة اللازم توافرها في الحسابات الجارية.

إن عمليات البيع لأجل قصير – يتراوح عادة بين شهر وثلاثة شهور – لا تغطي هـذه الحاجة، ولا يكاد يفي بهذا الغرض من الناحية الشرعية سوى سوق السلع الدولية حيث يمكن الشراء نقدا والبيع نسيئة لعدة أيام.

ولكن حجم هـذه العمليات لا يستوعب الفوائض الضخمة المتاحة لدى البنوك الإسلامية، كما أنها لا تتيسر عادة بالعملات المحلية التي تودع بها معظم الحسابات الجارية مصدر هـذه الفوائض.

لذلك كان من الضروري البحث عن أساليب أخرى لتحويل هـذه الأموال القصيرة إلى استثمارات أطول أجلا دون فقدان عنصر السيولة.

وهنا تعرض عدة حلول كانت ولا تزال محل بحث وتجربة.

وقبل أن نعرض هـذه الحلول نشير إلى أن هـذه المشكلة لا تعرض بهذه الصورة للبنوك التقليدية التي بإمكانها دائما أن تودع لدى بعضها بعضا ولو لمدة يوم واحد ما يفيض لديها من أموال وتحقق عنه عائدا في الوقت نفسه في صورة الفوائد المتفق عليها.

ونستعرض الآن بإيجاز الحلول المطروحة: [ ص: 88 ]

1– أول حل هـو ما تفعله البنوك التقليدية من إيداع لدى بعضها بعضا؛ مع فارق واحد هـو: أن هـذه الودائع تعامل معاملة الودائع الاستثمارية لدى البنك المتلقي لها، فيدفع عنها إلى البنك المودع العائد الذي يوزعه على مودعيه.

(أ) والمتصور في الغالب أن تكون بعض البنوك دائما بحاجة إلى سيولة، وأخرى بحاجة إلى التخلص من السيولة؛ مما يجعل العلاقة بينهما في اتجاه واحد.

(ب) ولكن يمكن كذلك تصور التبادل في الودائع بين البنوك التي تكون أحيانا بحاجة إلى التخلص من الفوائض وأحيانا أخرى بحاجة إلى تلقيها، وهنا تجري المقاصة بين الودائع؛ محسوبة على أساس المبالغ والمدد، ثم تحاسب الأرصدة على أساس العائد الذي يوزعه البنك المدين.

(جـ) كما يتصور كذلك أن يتم تبادل الودائع بعملات مختلفة؛ حيث يكون البنك الواحد بحاجة إلى عملة ما ولديه فائض من عملة أخرى، وبدلا من إتمام عملية صرف يتحمل بها كل من البنكين نهائيا موقف العملة التي اشتراها فيتم تبادل الودائع بعملتين مختلفتين ويتم الحساب بين البنكين؛ إما على أساس العائد الذي يحققه كل بنك على العملة التي تلقاها، وإما على أساس أن تعتبر الودائع قروضا حسنة لا تستحق أي عائد، ويقوم كل بنك باستثمار العملة التي تلقاها لحسابه وعلى مسئوليته ملتزما برد أصلها في نهاية المدة بالعملة نفسها التي تلقاها إلى البنك المودع.

2 – الحل الثاني هـو قيام كل بنك بترتيب استثماراته القصيرة (من شهر إلى ثلاثة شهور) بصورة تجعل استحقاقات هـذه الاستثمارات لا تحل دفعة واحدة وإنما وفق جدول يكفل توافر السيولة يوميا بشكل منتظم؛ بما يتيح له مواجهة [ ص: 89 ] الطلب العادي على الودائع، وإعادة استثمار الباقي بحيث يستمر الجدول متجددا.

3 – وهذا الحل – مع تحقيقه للسيولة – إلا أن حجم السيولة محدود بحجم استثمارات البنك الواحد؛ بحيث إذا تصورنا مجموع المبالغ العاملة في هـذا الجدول ثلاثة ملايين مستثمرة على شرائح متساوية لمدد كل منها شهر، فإن السيولة اليومية المتوافرة من الاستحقاقات تكون 100000، لذلك كان اشتراك عدة بنوك إسلامية في سلة واحدة للسيولة يتيح حجما أكبر، ففي المثال السابق لو تصورنا اشتراك عشرة بنوك كل منها بثلاثة ملايين وتوزع 30 مليونا على شرائح متساوية بالطريقة نفسها فإن السيولة اليومية المتوافرة ترتفع إلى مليون؛ مما يتيح لكل بنك سد حاجته الطارئة في حدود مليون بدلا من 100000، وهذا طبعا مع افتراض عدم احتياج أكثر من بنك واحد في اليوم الواحد للسيولة الطارئة.

4 – الحل الرابع هـو إصدار شهادات استثمار ممثلة لأصول مستثمرة لدى البنوك الإسلامية، وأصلح الأصول لهذا الغرض هـي الأصول المستأجرة؛ حيث يمكن تقييمها بصورة دورية، كما أن دخلها يكون معروفا؛ إذ الأجرة يتفق عليها مقدما، وبالتالي يمكن تقييم الشهادات الممثلة للأصل المستثمر والتعامل فيها بما يحقق ربحا ذا شقين: شق يمثل الدخل الشهري أو السنوي مقسما على الأيام، وشق يمثل الارتفاع أو الانخفاض في قيمة الأصل نفسه.

وإذا أمكن تنظيم سوق ثانوي تتداول فيه هـذه الشهادات أصبح من السهل على البنوك والأفراد الاستثمار لمدد قصيرة بشراء هـذه الشهادات لامتصاص ما لديها من فوائض السيولة ثم بيعها عند الحاجة إلى السيولة. وبقدر ما تتسع دائرة المتعاملين مع هـذه السوق الثانوية، وبقدر ما تنفتح على جمهور المستثمرين؛ بقدر ما تصبح قناة فعالة في تنظيم السيولة لدى البنوك الإسلامية. /402 90

التالي السابق


الخدمات العلمية