وأما : الترجيحات العائدة إلى أمر خارج
الأول منها : من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس أو عقل أو حس ، والآخر على خلافه ، فما هو على وفق الدليل الخارج أولى لتأكد غلبة الظن بقصد مدلوله ، ولأن العمل به وإن أفضى إلى مخالفة مقابله وهو دليل واحد فالعمل بمقابله يلزم منه مخالفة دليلين ، والعمل بما يلزم معه مخالفة دليل واحد أولى مما يلزم منه مخالفة دليلين . أن يكون أحد الدليلين موافقا لدليل آخر
الثاني : المدينة أو الأئمة الأربعة أو بعض الأمة بخلاف الآخر ، فما عمل به يكون أولى ، أما ما عمل به أهل أن يكون أحدهما قد عمل بمقتضاه علماء المدينة فلأنهم أعرف بالتنزيل وأخبر بمواقع الوحي والتأويل ، وكذلك الأئمة والخلفاء الراشدون لحث النبي - عليه السلام - على متابعتهم والاقتداء بهم على ما سبق تعريفه ، وذلك يغلب على الظن قوته في الدلالة وسلامته عن المعارض .
وعلى هذا أيضا ما عمل بمقتضاه بعض الأمة يكون أغلب على الظن ، فكان أولى .
[ ص: 265 ] وفي معنى هذا أن يعتضد كل واحد منهما بدليل ، غير أن ما عضد أحدهما راجح على ما عضد الآخر ، أو أن يعمل بكل واحد منهما بعض الأمة ، غير أن من عمل بأحدهما أعرف بمواقع الوحي والتنزيل ، فيكون أولى .
الثالث : أن يكون كل واحد منهما مؤولا إلا أن دليل التأويل في أحدهما أرجح من دليل التأويل في الآخر ، فهو أولى لكونه أغلب على الظن .
الرابع : أن يكون أحدهما دالا على الحكم والعلة والآخر على الحكم دون العلة ، فما يدل على العلة يكون أولى لقربه إلى المقصود بسبب سرعة الانقياد وسهولة القبول ، ولدلالته على الحكم من جهة لفظه ، ومن جهة دلالته عليه بواسطة دلالته على العلة ، وما دل على الحكم بجهتين يكون أولى ، ولأن العمل به يلزمه مخالفة ما قابله من جهة واحدة ، والعمل بالمقابل يلزم منه مخالفة الدليل الآخر على الحكم من جهتين فكان أولى ، وربما رجح ما لم يدل على العلة من جهة أن المشقة في قبوله أشد والثواب عليه أعظم ، إلا أنه مرجوح بالنظر إلى مقصود التعقل ، ولذلك كان هو الأغلب .
الخامس : أن يدل كل واحد منهما على الحكم والعلة إلا أن دلالة أحدهما على العلية أقوى من دلالة الآخر عليها ، كما بيناه فيما تقدم ، فالأقوى يكون أولى لكونه أغلب على الظن .
السادس : أن يكونا عامين إلا أن أحدهما ورد على سبب خاص بخلاف الآخر ، وعند ذلك فتعارضهما إما أن يكون بالنسبة إلى ذلك السبب الخاص أو بالنسبة إلى غيره ، فإن كان الأول : فالوارد على ذلك السبب يكون أولى ؛ لكونه أمر به ، ولأن محذور المخالفة فيه نظرا إلى أن تأخير البيان عما دعت الحاجة إليه يكون أتم من المحذور اللازم من المخالفة في الآخر ؛ لكونه غير وارد فيها .
وإن كان الثاني : فالعام المطلق يكون أولى ؛ لأن عمومه أقوى من عموم مقابله : لاستوائهما في صيغة العموم وغلبة الظن بتخصيص ما ورد على الواقعة بها ؛ نظرا إلى بيان ما دعت الحاجة إليه ، وإلى أن الأصل إنما هو مطابقة ما ورد في معرض البيان لما مست إليه الحاجة ، ولأن ما ورد على السبب الخاص مختلف في تعميمه عند القائلين بالعموم بخلاف مقابله ، وعلى هذا فمحذور المخالفة في العام المطلق يكون أشد .
[ ص: 266 ] السابع : أن يكون أحدهما قد وردت به المخاطبة على سبيل الإخبار بالوجوب ، أو التحريم ، أو غيره ، كما في قوله تعالى : ( والذين يظاهرون منكم من نسائهم ) أو في معرض الشرط والجزاء كما في قوله تعالى : ( ومن دخله كان آمنا ) . والآخر وردت المخاطبة به شفاها كما في قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ) فإن تقابلا في حق من وردت المخاطبة إليه شفاها ، فخطاب المشافهة أولى ، وإن كان ذلك بالنظر إلى غير من وردت المخاطبة إليه شفاها كان الآخر أولى ؛ لما حققناه في معارضة العام المطلق ، والوارد على السبب المعين ، ولأن الخطاب شفاها إنما يكون للحاضر من الموجودين ، وتعميمه بالنسبة إلى غيرهم إنما يكون بالنظر إلى دليل آخر ، إما من إجماع الأمة على أنه لا تفرقة ، أو من قوله - عليه السلام - : " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " [1] .
الثامن : أن يكون أحدهما مما يجوز تطرق النسخ إليه ، أو قد اختلف في تطرق النسخ إليه بخلاف الآخر ، فالذي لا يقبل النسخ يكون أولى لقلة تطرق الأسباب الموهية إليه .
التاسع : أن يكونا عامين إلا أن أحدهما قد اتفق على العمل به في صورة بخلاف الآخر ، فما اتفق على العمل به وإن كان قد يغلب على الظن زيادة اعتباره إلا أن العمل بما لم يعمل به في صورة متفق عليها أولى ؛ إذ العمل به مما يفضي إلى تعطيل الآخر لكونه قد عمل به في الجملة ، والعمل بما عمل إلى تعطيل ما لم يعمل به ، وما يفضي إلى التأويل أولى مما يفضي إلى التعطيل وما عمل به في الصورة المتفق عليها ، وإن لزم أن يكون فيها راجحا على العام المقابل ، إلا أنه يحتمل أن يكون الترجيح له لأمر خارج لا وجود له في محل النزاع ، وهو وإن كان المرجح الخارج بعيد الوجود لكن يجب اعتقاد وجوده نفيا لإهمال العام الآخر .
فإن قيل : لو كان له مرجح من خارج لوقفنا عليه بعد البحث التام ، وقد بحثنا فلم نجد شيئا من ذلك ، واحتمال مخالفة السبر أيضا بعيد فهو معارض بمثله ، فإنه لو كان رجحانه لمعنى يعود إلى نفسه لوقفنا عليه بعد البحث ، وقد بحثنا فلم نجده ، وعند ذلك فيتقاوم الكلامان ، وقد يسلم لنا ما ذكرناه أولا .
العاشر : أن يكون أحدهما قد قصد به بيان الحكم المختلف فيه بخلاف الآخر ، فالذي قصد به البيان للحكم يكون أولى ؛ لأنه يكون أمس بالمقصود ، [ ص: 267 ] وكما في قوله تعالى : ( وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ) فإنه قصد به بيان تحريم الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين ، فإنه مقدم على قوله تعالى : ( أو ما ملكت أيمانكم ) حيث لم يقصد به بيان الجمع .
الحادي عشر : أن يكون أحدهما أقرب إلى الاحتياط وبراءة الذمة بخلاف الآخر ، فالأقرب إلى الاحتياط يكون مقدما لكونه أقرب إلى تحصيل المصلحة ودفع المضرة .
الثاني عشر : أن يكون أحدهما يستلزم نقص الصحابي كحديث القهقهة في الصلاة بخلاف الآخر ، فالذي لا يستلزم ذلك أولى لكونه أقرب إلى الظاهر الموافق لحال الصحابي ، ووصف الله له بالعدالة على ما قال تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) أي : عدولا .
الثالث عشر : أن يقترن بأحد الخبرين ، فإنه يكون مرجحا على ما ليس كذلك ؛ لأن الراوي للخبر يكون أعرف وأعلم بما رواه . تفسير الراوي بفعله أو قوله
الرابع عشر : أن يذكر أحد الراويين سبب ورود ذلك النص بخلاف الآخر ، فالذاكر للسبب أولى ؛ لأن ذلك يدل على زيادة اهتمامه بما رواه .
الخامس عشر : أن يكون قد اقترن بأحد الخبرين ما يدل على تأخيره عن الآخر كالخبر الذي ظهر بعد استظهار النبي - عليه السلام - وقوة شوكته بخلاف الآخر ، فالظاهر بعد قوة شوكة النبي - عليه السلام - أولى ؛ لأن احتمال ظهور مقابله قبل قوة الشوكة أكثر من احتمال وقوع ما ظهر بعد قوة الشوكة ، فكان تأخيره أغلب على الظن ، فكان أولى .
وفي معناه أن يكون أحد الراويين متأخر الإسلام عن الآخر ، فالغالب أن ما رواه عن النبي - عليه السلام - بعد إسلامه فروايته أولى ؛ لأن رواية الآخر يحتمل أن تكون قبل إسلام المتأخر .
ويحتمل أن تكون بعد إسلامه ، فكان تأخير ما رواه متأخر الإسلام أغلب على الظن .
وفي معناه أن يعلم أن موت متقدم الإسلام كان متقدما على إسلام المتأخر ، وكذلك إذا علمنا أن غالب رواية أحد الراويين قبل الغالب من رواية الآخر فروايته تكون مرجوحة ؛ لأن الغالب تقدم ما رواه [ ص: 268 ] وكذلك إذا كانت رواية أحدهما مؤرخة بتاريخ مضيق دون الآخر ، فاحتمال تقدم غير المؤرخة يكون أغلب ، وكذلك إذا كان أحد الخبرين يدل على التخفيف والآخر على التشديد ، فاحتمال تأخر التشديد أظهر ؛ لأن الغالب منه - عليه السلام - أنه ما كان يشدد إلا بحسب علو شأنه واستيلائه وقهره ، ولهذا أوجب العبادات شيئا فشيئا وحرم المحرمات شيئا فشيئا .