الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ 1122 ] أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرني أبو بكر بن عبد الله ، أخبرنا الحسن بن سفيان ، حدثنا زكريا بن يحيى ، حدثنا هشيم ، عن حصين ، قال : كنت عند سعيد بن جبير ، فقال لنا : أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ؟ قال : قلت : أنا ، قال ثم قلت أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت قال : فما فعلت ؟ قال : قلت : استرقيت قال : وما حملك على ذلك ؟ قلت : حديث حدثناه الشعبي ، قال : وما يحدثكم الشعبي ؟ قال : قلت : حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال : لا رقية إلا من عين أو حمة .

قال : فقال سعيد بن جبير : قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ، ثم قال سعيد بن جبير : حدثنا ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عرضت علي الأمم قال : فرأيت النبي معه الرهط ، والنبي معه الرجل والرجلان ، والنبي ليس معه أحد ، إذ رفع لي سواد عظيم فقلت : هذه أمتي ؟ ، فقيل : هذا موسى وقومه ، ولكن انظر إلى الأفق قال : فنظرت فإذا سواد عظيم ، ثم قيل : انظر إلى هذا الجانب الآخر فإذا سواد عظيم ، فقيل : هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا ، يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب " .

ثم نهض النبي صلى الله عليه وسلم فدخل فخاض القوم في ذلك ، فقالوا : من هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ؟ فقال بعضهم لبعض : لعلهم الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وقال بعضهم : فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئا قط ، وذكروا أشياء فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ما هذا الذي كنتم تخوضون فيه ؟ " [ ص: 392 ]

فأخبروه بمقالتهم فقال : " هم الذين لا يكتوون ، ولا يسترقون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون " فقام عكاشة بن محصن الأسدي فقال : أنا منهم يا رسول الله ؟ فقال : " أنت منهم " ، ثم قام رجل آخر فقال : أنا منهم يا رسول الله قال : " سبقك بها عكاشة " .


أخرجاه في الصحيح من حديث هشيم وغيره .

وفي حديث بريدة رخصة في الاسترقاء ، وقد رواه إسماعيل بن زكريا ، ومالك بن مغول ، عن حصين ، عن الشعبي ، عن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا قوله : " لا رقية إلا من عين أو حمة " .

والله أعلم أنهما أولى بالرقى لما فيهما من زيادة الضرر .

والحمة سم ذوات السموم .

وأما رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس [ ص: 393 ]

قال الحليمي رحمه الله تعالى : " يحتمل أن يكون أراد بهم الغافلين عن أحوال الدنيا وما فيها من الأسباب المعدة لدفع الآفات والعوارض ، فهم لا يعرفون الاكتواء ولا الاسترقاء ، ولا يعرفون فيما ينوبهم ملجأ إلا الدعاء والاعتصام بالله عز وجل .

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أكثر أهل الجنة البله " .

فقيل : معناه البله عن شهوات الدنيا وزينتها والحبائل التي للشيطان فيها . وقال الله عز وجل : ( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ) .

فقيل : أراد الغافلات عما يرمين به من الفحشاء لا يتفكرن فيها ، ولا يخطرن بقلوبهن ، ولا تكون من همتهن فكذلك الذين أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر هم الغافلون عن طب الأطباء ورقى الرقاة ، ولا يحسنون منها شيئا لا الذين يحسنون ولا يستعملون ثم احتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، في ذلك وهو أنه صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة من الشوكة [ ص: 394 ]

وبعث إلى أبي بن كعب طبيبا فقطع منه عرقا ثم كواه عليه وهذا يدل على الرخصة في ذلك .

قال الإمام أحمد رحمه الله : ثم قد روينا عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الشفاء في ثلاثة : في شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو كية بنار ، وأنا أنهى أمتي عن الكي " .

وهذا القول صدر منه بعد قصة أسعد بن زرارة ، ويشبه أن يكون بعد قصة أبي أيضا وأراد بهذا النهي - والله تعالى أعلم - التنزيه ، فقد روى هذا الحديث بعينه جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة حجام ، أو شربة عسل ، أو لدغة بنار ، وما أحب أن أكتوي " .

وهذا يدل على أن ذلك على غير التحريم . [ ص: 395 ]

وروينا عن عمران بن حصين ، أنه قال : " نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن الكي ، فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا " .

وفي هذا ما دل على أنه على غير التحريم إذ لو كان على طريق التحريم لم يكتو عمران بن حصين بعد علمه بالنهي غير أنه ركب المكروه ففارقه ملك كان يسلم عليه فحزن على ذلك ، وقال هذا القول : ثم قد روي أنه عاد إليه قبل موته ، وإذا كان الكي بحكم هذه الأخبار مكروها فارق حكمه حكم سائر الأسباب التي ليست فيها كراهية حين استحق تاركه الثناء الذي قدمنا ذكره .

وأما الاسترقاء ، فقد روينا الرخصة فيه بما يعلم من كتاب الله أو ذكره من غير كراهية ؛ وإنما الكراهية فيما لا نعلم من لسان اليهود وغيرهم فكان التارك لما كان مكروها هو المستحق لهذا الثناء ، والله تعالى أعلم . ويحتمل أن يكون هذا هو المراد بما روى عقار بن المغيرة بن شعبة ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل " . [ ص: 396 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية