الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

البنوك الإسلامية بين الحرية والتنظيم (التقليد والاجتهاد - النظرية والتطبيق)

الدكتور / جمال الدين عطية

المبحث الأول: المضاربة والمشاركة

كان الاتجاه إلى تطبيق صيغتي المضاربة والشركة على النحو الوارد في كتب الفقه، وانصرفت هـمم العاملين لفكرة البنوك الإسلامية إلى استخراج أحكام هـذين العقدين خاصة (يراجع كتاب الدكتور عيسى عبده – رحمه الله – عن: العقود الشرعية الحاكمة لنشاط البنوك الإسلامية).

وسرعان ما تبين عند التطبيق عدة أمور جوهرية كان لها أثرها في هـذا المفهوم:

أولا: إن البنوك الإسلامية لا تعمل في فراغ تشريعي، فهي إن كانت قد أعفيت من تطبيق القوانين المصرفية إلا أنها خاضعة للقانون المدني والتجاري، ولقانون الشركات، وغيرها من القوانين الأخرى السارية في كل بلد.

1 – ومقتضى هـذا أن البنك الإسلامي إذا أراد الدخول في معاملة على أساس المشاركة فسبيله إذا أراد صياغتها وفق إحدى صور الشركات في الفقه الإسلامي وترتيب أحكامها عليها (كالعنان، والوجوه أو الذمم، والمفاوضة، والصنائع أو الأبدان أو العمل، والمضاربة) أن يجد الصيغة القانونية الملائمة لها أو القريبة منها من بين صيغ الشركات التي [ ص: 108 ] نظمها القانون (كشركات المساهمة، وذات المسئولية المحدودة، والتضامن، والتوصية البسيطة، والتوصية بالأسهم).

وهو إن اختار إحدى صور هـذه الشركات فإنه يخضع مباشرة للأحكام القانونية الخاصة بها، وليس للأحكام الفقهية الخاصة بالشركة التي أرادها، [1] فإذا كان يريد مثلا إنشاء شركة مضاربة فاختار صورة شركة التوصية لأنها أقرب الصور القانونية إلى شركة المضاربة فإنه حينئذ سيكون خاضعا لأحكام القانون الخاصة بشركة التوصية وليس لأحكام الفقه الخاصة بشركة المضاربة.

2 – والمخرج الوحيد إذا أراد أن يظل خاضعا لأحكام شركة المضاربة كما في كتب الفقه، هـو أن يختار عقد شركة محاصة، وهي شركة لا تكتسب الشخصية القانونية ويكون أحد الشركاء هـو الشريك الظاهر فيها الذي يتعامل مع الناس (والحكومة)، وينظم علاقته بباقي الشركاء عقد خاص غير مشهر ينص فيه الشركاء على ما يريدون من أحكام تأخذ بها المحاكم عند التقاضي؛ على أساس أن العقد شريعة المتعاقدين.

وقد اتجه القضاء – بعد زيادة حالات عقود شركات المحاصة التي عرضت عليه – إلى حصر عقود المحاصة في الحالات التي تنصب فيها الشركة على عملية واحدة دون الحالات التي يكون موضوع الشركة فيها شاملا لعديد من العمليات وممتدا لمدة طويلة.

ومن ناحية أخرى فإن المخاطر الناتجة عن تسجيل أموال الشركة وإجراء معاملاتها باسم الشريك الظاهر لا يقبل بها إلا الشركاء الذين تربطهم علاقات ثقة أساسها القرابة والمعرفة، أما عامة المتعاملين والمؤسسات والبنوك فإنهم لا يدخلون في مثل هـذه المخاطر.

3 – ولا يبقى بعد ذلك سوى اختيار إحدى الصور التي نظمها قانون الشركات [ ص: 109 ] والتسليم بخضوعها لأحكام القانون، والتغاضي عن الأحكام الفقهية التي أريد إعمالها ريثما تتجه الدولة بأكملها إلى إعادة النظر في تشريعاتها بما يتفق مع الشريعة الإسلامية.

4 – وإذا استعرضنا سريعا القوانين التي صدرت، أو مشروعات القوانين التي أعدت في عدة بلاد إسلامية، على أساس الشريعة الإسلامية، نجد أنها قد قبلت صور الشركات الحديثة بعد إدخال بعض التعديلات عليها، وإما استبعدت صور الشركات الفقهية بعد أن طورت أحكامها تطويرا جذريا، وإما جمعت بين الأمرين بدرجات متفاوتة.

فهي على كل حال قد خرجت من نطاق التقليد للأحكام الفقهية القديمة وأعملت الاجتهاد بما يناسب ظروف العصر على تفاوت بينها في هـذا المجال.

ثانيا: إن تطبيق أحكام عقد المضاربة على علاقة المودع بالبنك في حالة الوديعة العامة يصطدم بعدة اعتبارات:

1 – منها: أن تحديد المضاربة بمدة يفسدها؛ إذ الأصل أن تستمر حتى تصفى العمليات التي يقوم بها المضارب ويحصل المال المستثمر نقدا – أو ما يعبر عنه الفقه بالتنضيد – وهذا ما لا يناسب حالة المودع الذي يريد ترك ماله للاستثمار فترة زمنية محددة يسترجعه بعدها لاستخدامه في أموره الأخرى.

2 – ومنها: أن التوافق بين المبلغ الذي أودعه المودع والمدة التي يريد الإيداع خلالها، وبين مبلغ ومدة إحدى العمليات الاستثمارية أمور تكاد تكون مستحيلة الوقوع في العمل؛ إذ الواقع أن البنوك تصب فيها الودائع يوميا بالعشرات والمئات بمبالغ متفاوتة، وتقوم باستخدامها في عمليات لا ينظر فيها إلى هـذا التوافق، فأساس عمل البنك أن الودائع [ ص: 110 ] تصب في سلة عامة أشبه بالنهر الجاري الذي تأخذ منه قنوات الاستثمار المختلفة.

وتطبيق أحكام خلط أموال المضاربة لا يفيد كثيرا في هـذا المجال، إذ حالة الخلط التي أشار إليها الفقهاء هـي خلط يتم في عمليات محددة يتم الحساب بانتهائها وتوزيع نتيجة العمليات على المشاركين فيها، بينما الخلط في سلة المودعين خلط متداخل؛ تدخل فيه بعض الودائع بعد أن تكون بعض العمليات قد بدأت، وتخرج منه بعض الودائع قبل أن تنتهي بعض العمليات، فهي تيار مستمر لا يمكن من تتبع العمليات التي استثمرت فيها أموال وديعة بعينها لمعرفة حصتها من الربح أو الخسارة.

3 – وقد وجدت عدة محاولات للإبقاء على تكييف علاقة المودع بالبنك ضمن إطار عقد المضاربة مثل القول بالتنضيد الحكمي بدلا عن التنضيد الحقيقي، والتسامح في حساب الخلطاء عند تخارج بعضهم، وغير ذلك من أساليب الصناعة الفقهية.

4 – كما طرحت بدائل لعقد المضاربة أهمها عقد الوكالة، إذ يعتبر البنك بمثابة الوكيل عن المودع في استثمار أمواله مع تفويضه في الاستثمار وخلط الأموال، ولكن هـذه الصيغة لا تحل مشكلة الحساب بين الخلطاء الذين تتداخل أموالهم فترات مختلفة لا تتفق مع مواعيد بدء وتصفية العمليات التي استخدمت فيها هـذه الأموال.

والميزة الرئيسة لصيغة الوكالة هـي جواز أن يكون أجر الوكيل (بدلا من نسبة من الأرباح كما في حالة المضارب) مبلغا مقطوعة أو نسبة من مبلغ الوديعة ذاتها، وهذا مما يسهل حساب الدخل في البنك الإسلامي ويفصله عن نتيجة السلة الاستثمارية، ويمكن معه معرفة الأجر مقدما في كل فترة حسابية دون حاجة للدخول في تقديرات بحيث يصنف ضمن الدخل المحقق Realised أو المستحق Due لا المقدر Accrued.

ثالثا: إن تطبيق أحكام عقد المضاربة على علاقة البنك بمستخدم الأموال [ ص: 111 ] لا يبيح للبنك بصفته رب المال التدخل في أعمال المضارب وإلا فسدت المضاربة.

ومن الواضح أن مثل هـذا الحكم المبني على الثقة المطلقة في كفاءة وأمانة المضارب لا يمكن تطبيقه؛ لأن البنك مسئول عن حسن إدارة أموال المودعين الذين وثقوا فيه، ولا يمكن للبنك أن يفوض هـذه الثقة إلى غيره؛ إذ إن أساس الثقة في هـذه الأيام ليس مبناه العلاقات الشخصية وإنما النظم والمؤسسات، فالمفروض في الأجهزة المصرفية أن يكون لديها من أنظمة الدراسة والمتابعة والتفتيش والتحليل ووضع السياسات والتدخل ما يضمن سلامة استثماراتها وحسن أدائها بمستوى الثقة التي وضعها فيها المودعون.

وقد تنبه مخططو النظام المصرفي الإسلامي في باكستان إلى هـذه الناحية فقاموا بتطوير عقد المضاربة وحصره في صورة منظمة تتلاشى فيها هـذه العيوب، كما قاموا باستحداث عقد جديد لم يتقيدوا فيه بأحكام عقد المضاربة أسموه التمويل على أساس المشاركة في الربح والخسارة Profit-loss Sharing وسنعود إلى بحث هـذه الصور في الفصل الثاني من هـذا الباب.

رابعا: وقد دلت تجربة البنوك الإسلامية على أن معظم المتعاملين معها ممن لم يتعودوا إمساك حسابات نظامية، إذ إن معظمهم من أصحاب المشروعات، كما أن كثيرا منهم لا يرون بأسا في إعداد حسابات خاصة لمصلحة الضرائب، فلم لا يكون للبنك الإسلامي حساباته الخاصة كذلك؟!

إن بعض هـذه التجارب المؤلمة قد دلت على فقدان الأخلاقيات الإسلامية في التعامل، وليس هـذا بغريب، إذ إن اهتمام الدعاة والمربين كان ولا يزال مركزا على العبادات والأخلاق الاجتماعية؛ مما أدى إلى ضعف القيم والأخلاقيات الخاصة بالمعاملات، لذلك كان طبيعيا أن تحصر البنوك الإسلامية تعاملها على أساس المشاركة والمضاربة في أضيق نطاق، واتجهت إلى عقد المرابحة حيث لا حاجة بها إلى فحص حسابات العميل؛ إذ الربح محدد مسبقا ولا علاقة لها بما إذا كان العميل سيحقق ربحا أو خسارة في أعماله. [ ص: 112 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية