التأكيد على الدور التربوي كخيار أساسي
وليس من خيار يلوح في الأفق للتمرد على الواقع القائم إلا بأن نعيد للإعلام وجهه المشرق ليصبح من ثم وسيلة للتغيير والتوجيه والبناء، والصعود بالناس إلى أعلى حيث أراد لهم الإسلام وقضت بذلك تعاليمه، وهذا يتأتي-فقط- عندما يكون نابعا من عقيدتنا، منسجما مع قيمنا وأفكارنا، مستشرفا لآمالنا وطموحاتنا، ومن ثم محققا لأهدافنا التربوية الرامية إلى بناء الإنسان بناء معنويا متماسكا يقرن بين الدين والدنيا في السلوك والتوجيه تحقيقا لقوله تعالى: ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ) ( القصص : 77) .
وهذا يوقفنا وجها لوجه أمام القضية التي اقتضت هـذا التناول المتواضع، وهي: (الدور التربوي لوسائل الإعلام ) . ومما سبق فقد بدا أن هـذا الدور مفقود تماما، مما يستلزم إيجاده، ومن ثم ترسيخه وتعميقه..
وفي هـذا الإطار نضم صوتنا للمنادين بضرورة الوقوف طويلا عند المادة [ ص: 101 ] الإعلامية، التي قوضت الحصون وأقلقت المضاجع، بما تحمله من نسيج الأفكار والثقافات وأنماط السلوك. وهي وقفه تستهدف المراجعة والتدقيق من جهة، وإحلال البديل المناسب من جهة ثانية.
والأمر يبدو في غاية العسر، وليس بالسهولة التي قد يتصوره بها بعضهم، إذ أنه بداية شاقة للسير في الطريق الصحيح المؤدي إلى إنجاز أمنية غالية طالما راودت الكثيرين، وهي أمنية يتطلب تحقيقها المضي في ثلاثة اتجاهات، هـي :
1- أن تعين أجهزة الإعلام تأكيد وترسيخ أهداف التربية.
2- ألا تهدم برامج الإعلام ما تبنيه مناهج التربية.
3- أن تتكامل خطا العمليتين، التربوية والإعلامية، في تناغم وانسجام.
وباختصار واستيعاب: تثيبت وظيفة وسائل الإعلام الأساسية والعميقة التي أقل ما توصف به أنها أداة فعالة في عملية تربية المجتمع بكل فئاته ومستوياته وقطاعاته..
إن تأكيد خير الطرق وأنجع الأساليب لإرساء دعامات هـذه الوظيفة، على هـدى وبصيرة، يستوجب العمل على عدة محاور، أكتفي منها بالتعرض لاثنين، لما لهما عندي من أولوية وسبق..
أولا: تكثيف البرامج ذات الطابع التربوي الخاص
إن العمل على تكثيف البرامج التربوية ، يتبلور عبر إيجاد دور فاعل للتربويين، لتحقيق أهداف التربية من خلال الإعلام ، وذلك بإشراكهم في وضع أسس الاستراتيجية الإعلامية ، إضافة إلى استدعائهم في إطار من التعاون، لإعداد برامج هـادفة، يراعي فيها الحضور [ ص: 102 ] الإعلامي، ذو الظلال الموحية، والمعالجات الفنية البارعة: فكرة، ونصا، وإخراجا، وتنفيذا، متوجهين بذلك إلى الإنسان في عقيدته، وقيمه، وتطلعاته.. على أن تحيط بجوانب رحلته في الحياة والتي هـدفها - كما ألمح إلى ذلك الدكتور يعقوب الغنيم ، وزير التربية الكويتي- أن يكون سلوك الإنسان ترجمة لقيمه. وأن تكون وفقا لما أمره ربه، وأن تكون المحصلة النهائية لوجوده هـي العمل الطيب له وللناس من حوله.
وهذا التوجه المتكامل، يستغرق اهتمامات الإعلام الإيجابية من تبصير، وتأثير، وإقناع، من أجل صياغة الإنسان وبنائه، في جوانبه الروحية والفكرية والخلقية والوجدانية.
ومن هـنا يتضح كم هـي عاجزة إدارات البرامج الدينية بصورتها الحالية الوفاء بهذا العبء الثقيل، خاصة وهي تقدم في صورة شائهة، وبأسلوب عقيم، وفي أوقات غير ملائمة.. فالأمر أكبر وأخطر.. إذ أن الجهد يجب أن يتعدى هـذا النطاق الضيق ليصب في الاتجاهات كلها.. ويملأ كل المواعين..
فمثلا.. ما الذي يحول بيننا وبين أن نصوغ كثيرا من قيم الإسلام في الأشكال التي تتوفر عليها وسائل الإعلام ؟! مستخدمين فنون الإخراج ومهارات التقمص الحاذق للأدوار؟..
والإجابة تأتي في اتجاه أن الإسلام قد أرسى قيما وندب إليها. وتحضرني هـنا قيمة
(العمل ) ، قال تعالى: ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) . ( التوبة : 105) .
( وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم : إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها فليغرسها فله بذلك أجر. ) [ ص: 103 ] فقيمة كهذه أرى أنه من السهل أن تبسط أمام الناس في ثوب أخاذ موضوعا لفيلم أو تمثيلية أو مسلسل أو برنامج منوع .. ولا يكفي، بل يجب أن ينظر إليها بعين الاعتبار في أي عمل إعلامي آخر، والوقوف دون أي قيمة أخرى تعمل على ازدرائها أو التقليل في شأنها..
والأسلوب ذاته يمكن أن تتبعه مع غيرها، وفي الإسلام متسع، ومن ذلك:
· قيمة التحاكم إلى الله ورسوله والانعتاق من سلطان الأهواء والنزوات..
· قيمة صرف أوجه النشاط والتنافس إلى العبادة وبذل القربات لا التهالك على الحطام.
· قيمة إعلام موازين الحق والعدل والمساواة عوضا عن بطر الحق، وغمط الناس، والسعي في الأرض بالخراب.
· قيمة أخذ العفو، والأمر بالمعروف، والإعراض عن الجاهلين بدلا من الانغماس في الخصومة والشقاق والمنافرة..
وكثيرة بعد ذلك تلك القيم التي باستطاعة وسائل الإعلام -إن أحسن استخدامها- أن تحيلها إلى مشاهد ومواقف ومقاطع، تنبض بالحركة، وتفيض بالحيوية، وتنطق بالصدق، فتشد الفكر ، وتوقظ الوجدان ، وتسمو بالروح ، وستكون النتيجة الطبيعية: تأثرا يعقبه انقياد يثمر تمثلا وتطبعا يستجيبان لدواعي الفطرة وبواعث الإيمان. وفي ذلك إنزال لوسائل الإعلام منزلة المربي، بجهد التربويين وبلائهم وتفانيهم.. وهذا من شأنه أن يقيم الحجة على القائمين على أجهزة الإعلام ويفند اعتذارهم بأن ضآلة المادة التربوية عائد إلى عدم تجاوب التربويين وإحجامهم عن المشاركة الإعلام..
ويبدو جليا أن غياب الصلحاء عن الساحة الإعلامية قد فسح المجال واسعا أمام المعالجات القاصرة والشاردة.. وأذكر هـنا أنني استمعت إلى [ ص: 104 ] طرف من حديث كان مسرحه التلفزيـون ، جاء فيه أن طرد الهم أو امتصاص الغضب وتحمل الإساءة يتحققان باللجوء إلى سماع الموسيقى الهادئة أو باسـتخدام ( الوسائد ) في (غرفة النوم ) لتقوم مقام الخصم ومن ثم إعمالها في الرأس ( ضربا ونطحا) .. وهذا هـو العلاج الأمثل!!
( وسليمان بن صرد رضي الله عنه يقول: كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان وأحدهما قد احمر وانتفخت أوداجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب منه ما يجد ) .. وعلى هـذا يقاس..
ثانيا: ترشيد المادة الترفيهية لتحقيق مقاصد التربية
فإنه مما لا يحتاج إلى تأكيد أو إقامة دليل أن المادة الترفيهية -التي ترمي إلى الإمتاع والتسلية والإلهاء، وقد تتسع بصورة طغت الجوانب الأخرى- موظفة الإمكانات المتاحة، ومستفيدة لأقصى حد من إقبال الجماهير، وهو إقبال مبعثه الفراغ والجري غير الواعي وراء الأهواء والرغبات غير الرشيدة، وضعف الإحساس بالمسئولية نحو الكلمة، إرسالا وتلقيا..
ومما لا شك فيه أن هـذا الإقبال قد أدى إلى تعلق وافتتاح شديدين بكل ما هـو غث هـازل، وضعيف ساقط، وفي نفسه إعراض وصدود عن كل ما هـو جاد وهادف مما يدفع مفسدة أو يجلب مصلحة ..
ومن هـذا المنطلق فإن أية محاولة للترشيد لا بد أن تبدأ من العزم على محاصرة البرامج الترفيهية بوضعها الراهن، وإعطائها الحيز المناسب ليكون الهدف هـو: نوعية ما يبثه، لا كميته.. فالأمة المحاطة بالأعداء، بحاجة إلى ما يفتل السواعد، ويلهب الإيمان، ويقوي الأخلاق، ويفتح [ ص: 105 ] العقول، ويدفع عنها خطر الإبادة والاحتلال.
وكم كان الدكتور مصطفى السباعي - رحمه الله- صادقا وهو يطلق صرخة موجعة، محذرا من بدايات هـذا الانجراف المحموم، مشيرا في ذلك إلى: أن الانصراف إلى النوع من الاهتمامات هـو ( شغل الذين تم لهم البناء، أما الذين لم يبدأوا بالبناء بعد، أو بدأوا متأخرين، فمن أكبر الجرائم صرفهم عن الاهتمام في تقوية البناء، إلى الاهتمام بالرسم والغناء، وعن الاختراع إلى رقص الإيقاع، وعن صنع الحياة إلى رسم الحياة.. )
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن التعامل مع المادة الترفيهية التي تمليها الضرورة، ويفرضها العصر، ويرتضيها الطبع السليم، يقتضينا أن نحيطها بقناعات مؤكدة في الحس، مركوزة في الفطرة ، وهي أننا ننتسب إلى أمة ليس في قواميسها أن الفن للفن، وأن الترفيه لمجرد التسلية وانتزاع الضحك وتمضية الوقت.. وإنما هـي ممارسات ترتبط بمثل عليا، قوامها: الالتزام والقصد، وتتفاعل في إطار من التوجيهات التي تولت العناية الإلهية إضاءتها، وذلك في أكثر من آية، وبأكثر من معنى:
قال الله تعالى: ( إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ) ( يس: 12) .
( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) (ق: 18)
( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات:56) ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) (الحشر: 7) . ( .. الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا.. ) (الملك: 2)
وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وصحبه، ومن تبعهم بإحسان، ومضات مشرقة [ ص: 106 ] في هـذا الجانب، إذ أنهم سبقوا إلى ( الترويح ) وهو التسلية والترفيه والاستمتاع في أرقى صورها، وكان ذلك بلا إفراط أو تفريط ، ولتحقيق جملة أغراض، لعل أبرزها: التقوي بها على أداء الواجبات ، والتسرية عن النفس علاوة على الوفاء بحق البدن.
ففي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، أنه كان في حكمة آل داود عليه السلام : ( حق على العاقل أن تكون له أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها بأصحابه الذين يخبرونه بعيوبه ويحدثونه عن ذات نفسه، وساعة يخلو فيها بلذاته فيما يحل ويجمل فإن في هـذه الساعة عونا على تلك الساعات. )
وقال صلى الله عليه وسلم ، موجها حنظلة رضي الله عنه : ( والذي نفسي بيده، إنكم لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن ياحنظلة ساعة وساعة ) وكرر هـذه الكلمة ( ساعة وساعة ) ثلاثة مرات. )
( وقالت عائشة رضي الله عنها :
لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا الذي أسأمه. )
" وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:
روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلب إذا أكره عمي. "
وكما وضح من هـذه الأمثلة، التي سبق سردها، فإن هـذه الممارسات لم تتجاوز هـذا النطاق الضيق ذا الأبعاد والمرامي الهادفة والمسئولة.. ونسجا على المنوال ذاته الذي اختطه السلف رضوان الله عليهم. يرى كثير من المفكرين - على حد قول الدكتور عبد اللطيف حسين فرح الأستاذ بجامعة الملك سعود بالرياض - إن : المادة الترفيهية يجب أن تتصيد عصفورين بحجر واحد: ترفه عن الجمهور، وفي الوقت نفسه تؤثر عليه في اتجاه [ ص: 107 ]
فلسفة مرسومة للمجتمع، ويطلق على هـذا النوع من الترفيه (الترفيه الموجه) حيث تستغل رغبة في قضاء الترفيهية.
وإني لعلى يقين بأننا سنكون بمنأى عن الانحراف، أو الانجراف في هـذا الخطر إذا ما تقيدنا بعدة ضوابط صارمة يأتي في مقدمتها :
أ - وضوح الهدف التربوي لدى المخطط الإعلامي .
ب - الإعلاء من قيمة المسئولية والالتزام أثناء المعالجة والطرح.
ج - عدم المساس بالمفاهيم والقيم ( فمن اتقى الشبهات فقد اسـتبرأ لدينه وعرضه ) .
د - عدم التضحية بالمضمون لأي سبب من الأسباب في سبيل الشكل.
وبعد:
فهذه مجرد وجهة نظر متواضعة أحببت أن أشارك بها في مسيرة الوعي التي أخذت تنتظم أرجاء العالم الإسلامي مبشرة بالدخول في مرحـلة ( التعيين العلمي ) ، وهي المرحلة التي تحث على عقد العزم لارتياد المجال العلمي وصب الطاقة الفعلية في برامج تطبيقية، تعيد طريق الاهتداء العلمي أمام الأمة، وتفصل خطوات السير فيه تفصيلا.. والله المستعان. [ ص: 108 ]