الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فتك الغلو في الدين..

أحسست غضبا شديدا وأنا أسمع مفتيا في إحدى الإذاعات يجيب عن سؤال وجه إليه: هـل يجوز إخراج زكاة الفطر نقودا ؟ قال المفتي: لا يجوز، ومن أخرجها نقدا وجب عليه أن يعيد إخراجها شعيرا أو قمحا، واستتلى: إن هـذا التصرف بدعة ، و ( من أحدث في أمرنا هـذا ماليس منه فهو رد عليه ) !

وخيل إلى من غضب المفتي أنه لو وجد أبا حنيفة لأغلظ عليه، لأن هـذا الإمام يرى إخراج الزكاة مما هـو أنفع للفقراء نقدا كان أم حبوبا...

وأغلب المسلمين يتبع هـذا الرأي، فلماذا نحرجهم ؟ لم ضيق الأفق ؟ وقطع ما أمر الله به أن يوصل ؟ إن المتقوقعين في نطاق الأحكام الفقهية المحدودة يسيئون أكثر مما يحسنون !

وحدث في إحدى الكليات أن أقبل العميد على جمع من الطلاب كانوا جلوسا على بعض مقاعد الحديقة، فخفوا إلى استقبال أستاذهم وقوفا، إلا واحدا ظل على كرسيه لم يتحرك، زاعما أن ما فعل هـو السنة ...!

قلت: ( إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للأوس لما جاء زعيمهم سعد بن معاذ ، قوموا إلى سيدكم. ) ، والطلاب الذين قاموا مرحبين بعميدهم أقرب إلى الفطرة والسنة والأدب من هـذا الطالب ! وهو يسيء إلى الإسلام بهذا المسلك. [ ص: 150 ]

قل لي أحدهم: إنه طالب محافظ يربي لحيته ! قلت: تربية اللحية من السنة، وتربية النفس من أركان الإيمان.. وماذا عليه لو أحسن الشكل والموضوع... ؟

إن الاهتمام بالشكل فقط، أول مراحل التقليد ، فالطفل عندما يرى أباه وهو يصلي، يحفظ حركات جسمه ركوعا وسجودا، ويبدأ محاكاته فيها ! أما مشاعر الخشوع ومعاني الكلمات فهو لا يراها ولا يحسن تقليدها، لعله يبلغ ذلك مستقبلا بالدراسة والتجربة والمعاناة..

والأمم الطفلة هـي التي تبرع في تقليد الشكل وتفصليه فصلا تاما عما ارتبط به من معان، فهي في ميدان الأدب تحسن السجع والجناس أكثر مما تعمق الفكرة وتسدد النظرة، وهي في ميدان الدين تضحي بوحدة الأمة في سبيل إخفاء البسملة أو الجهر بها !

وسلفنا الأول كان أرفع كثيرا جدا من المستوى، ولذلك خدم رسالته، وبلغ دعوته..

هل من الصحوة الإسلامية ، أن يهمل بعضهم التفوق الصناعي مدنيا كان أو عسكريا، لانشغاله بحكم الصلاة في النعال، وجواز دخول المساجد بها ؟ هـذا المسلك إغماء عقلي، وهوس ديني، ولا يوصف أبدا بخير....

ثم، أيصنع العقل الغربي السيارة ونشتريها نحن لنكتب عليها: ( عين الحسود فيها عود ) ! أو ( كايدة الأعداء ) ؟

إن يقظة إنسانية إنما تنهض بدءا وختاما على حدة العقل، وسناء القلب، والإسلام إنما أنهض العرب وحلق بهم في الأوج، لأنه أنعش هـذه الملكات الإنسانية وأطلقها تسعى، والصحوة الإسلامية الحاضرة ينبغي أن تترسم الخطا الأولى لا أن تتبع خلوفا ظلموا دينهم وأنفسهم على سواء...

هل نستقدم خبراء ليعلمونا نظافة البيوت والمدن ؟ هـل نستقدم خبراء [ ص: 151 ]

ليعلمونا الهدوء والنظام والسير في الشوارع برتابة وكياسة ؟ هـل نستقدم خبراء ليعلمونا أن التزوير في أداء الشهادات وإجراء الانتخابات ضرب من الوثنية ؟ هـل نستقدم خبراء ليعلمونا كيف ندفع الكفايات إلى الأمام ونرد التافهين إلى الوراء ؟

إن هـناك أبجديات في الفطرة الإسلامية لا ندري لماذا ننساها ؟ ولن تتم صحوة إلا عندما نفتح بها أولا.

قال لي صديق عالم في " الجيولوجيا " : إنني قلق لأن امامنا عشرات السنين حتى نطوي مسافة التخلف الحضاري بيننا وبين من سبقونا في ميادين الذرة والفضاء والطاقة وغيرها..! ودعم الحق ميئوس منه بالوسائل البدائية !

قلت: إنني أؤمن بعون الله.. ! ثم استتبعت أقول لنفسي ولكل مهتم بأمر دينه: إن العون الأعلى يظفر به الصاحون بين السكارى ! فلنجتهد في ترشيد صحوتنا المعاصرة حتى تؤتي جناها... [ ص: 152 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية