الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ما هـو الإعلام الإسلامي الذي نريد ؟

تختلف نظرات الناس حول الإعلام الإسلامي ما بين النظرة الجغرافية ، والنظرة التاريخية ، والنظرة الواقعية التجزيئية . فالنظرة الجغرافية تفهم الإعلام الإسلامي على اعتبار أنه الإعلام الصادر من دول العالم الإسلامي، أو الجهات التي تنتسب إلى الإسلام. وتكاد هـذه النظرة أن تكون النظرة السائدة في الدراسات الأجنبية عن الإعلام الإسلامي. ولذل تصنف هـذه الدراسات إعلام الدول التي تقع في إطار العالم الإسلامي ضمن الإعلام الإسلامي بمفهومه الجغرافي الرسمي، دون تمييز في المنهج أو الغاية أو الممارسة.

والنظرة التاريخية للإعلام الإسلامي تكاد تحصر الإعلام الإسلامي في إطار زمني ضيق، فتوحي بأن الإعلام الإسلامي مفهوم تراثي، وممارسة محدودة في فترة زمنية معينة، مثل تلك الدراسات التي تتناول الإعلام ووسائله في عهد النبوة أو الخلفاء الراشدين. [ ص: 35 ]

أما النظرة الواقعية التجزيئية للإعلام الإسلامي، فتستند إلى صور الممارسة الواقعية لبعض جوانب الإعلام الإسلامي المحدودة، وتفهم هـذا الإعلام باعتباره إعلاما ( دينيا متخصصا ) . ولذلك يغلب على من ينحو هـذا المنحى أن يفهم الإعلام الإسلامي في حدود الصفحات الدينية، وركن الفتاوى، والخطب المنبرية ، في الصحافة اليومية ، أو في حدود تلك الصحف والمجلات التي تسمى نفسها بالإسلامية، أو في حدود البرامج والأحاديث الدينية في الراديو ، أو في حدود البرامج والأفلام والمسلسلات التاريخية والدينية ، التي يشاهدونها عبر الشاشة التلفازية أو السينمائية !!

ورغم أن هـنالك بعض جوانب الصحة في هـذه النظرات المختلفة للإعلام الإسلامي، إلا أنها لا تعبر عن حقيقة الإعلام الإسلامي بشموله وتكامله، ولا تمثل جوهره الأصيل، وخصائصه النظرية والتطبيقية. فالنظرة الجغرافية توهم الإعلام الصادر من دولة مسلمة يكتسب الشرعية الإسلامية بمجرد انتسابه إلى الدولة المسلمة، دون اعتبار لغاية ذلك الإعلام ومنهجه، ودون اعتبار لمضمونه وأساليب ممارسته. والمؤسف أن واقع الإعلام المعاصر في كثير من دول العالم الإسلامي لا يصور أبدا حقيقة الإعلام الإسلامي. والتحليل العلمي الموضوعي يكشف لنا أن كثيرا من منطلقات الإعلام، ومضامينه، وأساليب ممارسته، وقواعد تنظيمه في كثير من الدول المسلمة يسير في ركب التقليد والتبعية للأنماط الغربية أو الشرقية في الإعلام، ويفتقد الهوية الإسلامية الواضحة !!

والنظرة التاريخية للإعلام الإسلامي، نظرة قاصرة، إذ تحجم هـذا الإعلام وتصوره على أنه إعلام تراثي عتيق، ينفصل عن الواقع، ويبتعد عن معالجة قضايا العصر والاستفادة من معطياته ومنجزاته. والحق أن الإعلام الإسلامي ليس مرتبطا بفترة زمنية، وليس محدودا ببقعة مكانية محدودة، بل هـو منهج يتجاوز حدود الزمان والمكان، ويحمل في طياته بذور الملائمة لكل زمان ومكان. [ ص: 36 ]

أما النظرة الواقعية التجزيئية للإعلام الإسلامي، فهي نظرة مجحفة، غير منطقية، وهي مثل سابقتيها تحجم هـذا الإعلام، وتفصله عن الواقع، وتخصص له جزءا محدودا من النشاط الإعلامي الحافل. وهذه النظرة ذات أثر خطير في حياة المسلمين، لأنها تفصل الإعلام بنشاطاته الواسعة وممارساته المتنوعة عن الهدي الإسلامي، وتكتفي بتحكيم الإسلام في جزء من النشاط الإعلامي، ثم لا تبالي أن يناقض الإعلام مبادئ الإسلام وأخلاقه ويتعدى حدوده وضوابطه في الأجزاء الأخرى التي يطلق عليها ( الإعلام العام ) !! وكأن هـذا المفهوم يقترب من المفهوم الغربي العلماني في فصل الدين عن الحياة، واعتبار الدين شأنا فرديا وعقيدة مكنونة، يخصص له جزء من النشاط الإنساني، ولا سلطان له على الواقع، ولا هـيمنة له على الحياة الاجتماعية ونشاطاتها العامة.

إن المفهوم البديل، بل المفهوم الحق للإعلام الإسلامي هـو المفهوم المنهجي، الذي لا يجعل مقاييس إسلامية الإعلام مبنية على أساس الحدود الجغرافية والمكانية، أو الوضعية التاريخية المحدودة، أو الممارسة الواقعية الخاطئة للإعلام في الحياة، بل يبنى تلك المقاييس والمعايير على أساس المنطلقات الرئيسة والأطر الفكرية والاجتماعية والإنسانية المنبثقة من روح الإسلام وتصوراته الكلية وقيمه السامية، وعلى أساس الضوابط الشرعية التي ينبغي أن يسير الإعلام على هـدي منها، ويلتزم بها في نشاطاته المختلفة وممارساته الواقعية.

إن الإعلام الإسلامي -بهذا المفهوم المنهجي- روح تسري في النشاط الإعلامي كله، تصوغه، وتحركه وتوجهه منذ أن يكون فكرة إلى أن يغدو عملا منتجا متكاملا، مقروءا كان أو مسموعا أو مرئيا. وبذلك يصبح الإعلام الإسلامي منهجا قويما تسير وفقه جميع النشاطات الإعلامية في كافة الوسائل والقنوات دون أن يحيد نشاط واحد منها عن الطريق، أو يتناقض مع النشاطات الأخرى سواء في الوسيلة الواحدة أو الوسائل المتعددة. [ ص: 37 ]

وبذلك -أيضا- يصبح الإعلام الإسلامي حكما موضوعيا تتحاكم إليه جميع هـذه النشاطات الإعلامية ثم لا يجد نشاط منها حرجا في التسليم لحكمه والإذعان لتوجيهه.

وفهم الإعلام الإسلامي بهذه الصورة الشاملة، ينسجم مع الحقيقة الأصيلة لهذا الدين، وهي أنه منهج شامل للحياة، وليس منهجا جزئيا يعالج جانبا من جوانب الواقع الإنساني، ويهمل الجوانب الأخرى. وهذا المفهوم للإعلام الإسلامي، يحقق في حياة الأمة الإسلامية على الدوام الاستقرار والتوازن، ويخلصها من آثار الازدواجية والتناقض والصراع التي تعاني منها الأمة، كلما ابتعدت عن منهج الله. والنشاط الإعلامي المعاصر يعاني من هـذه الأمراض الخطيرة، حيث تجد الازدواجية والتناقض في الوسيلة الواحدة فضلا عن وجودهما في الوسائل المتعددة، حيث تستمع إلى برنامج ( ديني ) يحث على الفضيلة، فيعقبه مباشرة برنامج آخر يغري بالرزيلة، أو أغنية ماجنة تزين السقوط بصورة جذابة مشوقة !! وتشاهد في التلفاز برنامج ( دينيا ) يبنى في نفوس المشاهدين معاني الرجولة والصلاح والخير، ثم لا تلبث أن تصدم في الوسيلة نفسها بفيلم مثير، ينقض كل ما بناه البرنامج (الديني ) ويهدمه!! والأنكى من ذلك أن يقدم البرنامج (الديني ) في أسلوب جاف وإخراج رتيب، فلا يجذب المشاهد ولا يجوز على رضاه، بينما يخدم الفيلم غير الديني خدمة فائقة، فيقبل عليه الصغار والكبار، ويتحلق حوله الشباب والشابات في رغبة وحماس!!

ولو نظرنا إلى واقع النشاط الإعلامي والنظم الإعلامية في المجتمعات المختلفة التي لا تدين بالإسلام لوجدنا ذلك النشاط في مجتمع ينبع أصلا من التصورات العقدية والأيديولوجية للمجتمع، وينطبع بالقيم والتقاليد والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة فيه، ولوجدنا أن النظام الإعلامي يخدم أساسا الغايات والأهداف البعيدة والقريبة التي يسعى المجتمع إلى تحقيقها. فالإعلام في الدول الغربية ( اللبرالية ) [ ص: 38 ] العلمانية ينطلق من غايات المذهب ( اللبرالي ) العلماني ، وفلسفته، ويروج بطرق مباشرة وغير مباشرة للنمط العلماني الغربي للحياة الذي يفصل الدين عن واقع الحياة، ويجمد الحرية الفردية، ويعلي من قيمة الأنانية، والإنجاز الشخصي، ويعمق روح المادية والاستهلاكية. والإعلام في الدول الشيوعية يصطبغ بفلسفة الأيديولوجية الماركسية ، وينطلق من غاياتها، ويروج بطرق مباشرة وغير مباشرة للنمط الإلحادي الماركسي للحياة الذي يصور هـذه الحياة بأنها صراع بين الطبقات، ويجعل الحزب ( ديكتاتورا ) متسلطا ومهيمنا على الناس، ويوظف الإعلام ليكون خادما للسلطة ومجرد أداة لتحقيق رغبات الحزب وشهواته !!

وللإسلام -دون شك- فلسفته الإعلامية الخاصة به. وفي ضوء هـذه الفلسفة المستقاة من المصادر الأصلية للمنهج الإسلامي، تتحدد معالم النشاط الإعلامي داخل المجتمع الإسلامي وخارجه. ولقد وضع الإسلام أصولا عامة وقواعد كلية لكافة جوانب العملية الإعلامية. ولكن هـذه الأصول والقواعد مبثوثة في المصادر الإسلامية المتمثلة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفي اجتهاد فقهاء المسلمين وعلمائهم عبر العصور المتعاقبة. والإعلام اليوم غدا علما منظما. ولذلك فإن المسلمين بحاجة ماسة إلى صياغة منظومة إعلامية ذاتية لهم، تحدد معالم الهدي الإسلامي في النشاط الإعلامي من حيث :

أ - فلسفته الأساسية، وإطاره الفكري العام المبني على التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان وغاية الوجود الإنساني.

ب - غايته الكبرى، ومنهجه الأصيل في تحقيق تلك الغاية.

ج - وظائفه العامة والخاصة، ومدى ارتباط هـذه الوظائف بالحاجات الواقعية لأفراد المجتمع، ومقدار استجابته للظروف المحيطة بهم.

د - أساليبه وطرقه في تقديم المضمون إلى الناس، ومدى مراعاة هـذه. [ ص: 39 ]

الأساليب لخصائص الجمهور المتلقي للرسالة الإعلامية، وكيفية تفاعله معه.

ه- وسائله وقنواته المتنوعة سواء التقليدية منها والحديثة، وخصائص الوسائل الخاصة بالإعلام الإسلامي والتي ينفرد بها عن غيره من المذاهب الإعلامية الوضعية كقنوات الاتصال الشخصي المنظم، وألوان الاتصال الجمعي والدولي المتميزة، وكيفية استثمارها وتوظيفها لخدمة أهداف المجتمع المسلم وغاياته.

و - نظمه وسياساته العامة والخاصة، والأسس والضوابط التي يضعها الإسلام لتقنين تلك النظم وصياغتها، وترشيد السياسات الإعلامية التي يتبناها.

وهذا العمل الذي يستهدف صياغة منظومة إعلامية إسلامية للمجتمع الإسلامي لن يتحقق إلا خلال اجتهاد عصري يقوم به علماء يمتلكون زادا متينا من العلم الشرعي ، ويمتلكون أيضا زادا متينا من العلم الإعلامي في جانبيه النظري والتطبيقي. ولا بد من أن يعتمد هـذا الاجتهاد العصري على تلاحم عنصرين هـامين هـما:

أولا : دراسة المصادر الأساسية للإسلام دارسة إعلامية علمية لاستنباط الأسس والقواعد التي تنظم العملية الإعلامية أو ترشد إليها. ويردف هـذه الدراسة محاولة الكشف عن ذخائر التراث الإسلامي عبر العصور مما له صلة بالممارسة الإعلامية.

ثانيا: دراسة نتاج البحوث والدراسات والممارسات الإعلامية المعاصرة واستيعابها، ثم استلهام روح التشريع الإسلامي ونتائج الدراسة الإعلامية العلمية لمصادر الإسلام وتراث المسلمين للوصول إلى رؤية واضحة لما ينبغي أن يكون عليه الإعلام الإسلامي في الجوانب النظرية والتطبيقية التي ذكرتها آنفا. [ ص: 40 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية