الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
من شروط العمل الإسلامي

ولكن المسلم المهاجر، لا يستطيع أن يقوم بدوره ويحمل رسالته في المجتمع الأمريكي إلا إذا راعى شروط مسئوليته، وإذا كان المسلم المهاجر لا يجسد الأنموذج المطلوب للإنسان، فلأنه حينما وصل أرض المهجر غفل عن هـذه الشروط، ولما يزل غافلا عن أساليب مراعاتها ومحتاجا إلى تدبرها، وهذا ينقلنا إلى القسم الثالث من الموضوع، وهو شروط العمل الإسلامي في أمريكا .

إن الشرط الأول هـو: التجرد الكامل، وعدم تداخل الغايات والأهداف فإذا كان بعض المسلمين قد جاءوا إلى أمريكا لغايات العيش والتجارة أو الدراسة، فإن جسامة المسئولية التي يجدون أنفسهم أمامها، تقتضي منهم أن يتمثلوا قول الإمام الغزالي رحمه الله:

(طلبنا العلم لغير الله، فأبى إلا أن يكون لله ) ، فإذا كانت بدايات الهجرة إلى الديار لغير الله، فلتحيلها ضخامة المسئولية إلى هـجرة في سبيل الله.

ولنا في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير قدوة، فحينما خرجوا إلى المجتمعات الأخرى من الجزيرة أعطوا الناس الإسلام وتركوا لهم الدنيا، فلم ينقلوا إلى المدينة أو مكة المنتجات والخبرات ليقيموا المسارح والقصور والمصانع وما يشاهده السائحون في آثار روما والفراعنة، وعمارة إنجلترا وفرنسا وأمريكا [ ص: 133 ] مما يقف شاهدا على نهب ثروات الشعوب وتعمير الوطن الأم.. وما غاب هـذا التجرد عنهم رضوان الله عليهم حتى في ساحات المعارك عند غياب التفكير واشتعال العواطف، فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ينازل يهوديا في خيبر وتبلغ بهما المبارزة مبلغا انتهى إلى التحام الاثنين بالأيدي حتى إذا ألقى الإمام علي اليهودي على الأرض واستل سيفه ليذبحه، بصق اليهودي في وجه الإمام علي رضي الله عنه ، فما كان من الإمام إلا أن قام وأخلى سبيله، فاندهش اليهودي وسأل الإمام عن ذلك!؟ فقال: كنت حريصا على أن أقتلك في سبيل الله.. أما وقد فعلت فعلتك هـذه فقد خشيت أن أكون قد غضبت لنفسي.. فما كان من اليهودي إلا أن رفع صوته بالشهادة وأسلم.

وإذا كان جيل الصحابة قد صفت أهداف هـجرته منذ البداية، فإن هـناك أمثلة أخرى من الأجيال المتأخرة خرجت مهاجرة للبيع والتجارة في شرقي آسيا ووسط أفريقيا ، حتى إذا صححت النية، وصوبت الهدف، وضربت للناس مثلا في حسن المعاملة والرحمة والحياة، فتح الله قلوب الناس ودخلوا في دين الله أفواجا.

والشرط الثاني: هـو الموازنة بين الدراسة النظرية والتطبيق العملي للإسلام فالمسلمون في أمريكا مطلوب منهم أن يعيشوا الإسلام ويقدموا معيشتهم الإسلامية أنموذجا للباحثين عن الهوية والانتماء واحترام الذات ، والناس إنما يتعلمون من السلوك ومما يرون بأعينهم، وقليل أولئك الذين يبحثون عن الإرشاد في الكتاب والمجلة، فالكلم الطيب لا بد له من عمل صالح يرفعه عند الله وعند الناس.

والتطبيق الذي أعنيه هـنا، لا يقتصر على الممارسات الفردية، ولا ينحصر في العبادات والمجال الأخلاقي. وإنما يشمل ألوان الممارسات والعلاقات الجماعية.. وهذا التطبيق الشامل هـو محور بناء المجتمع المسلم، وضمان أصالته [ ص: 134 ] وصلابته، ودعامة الاستراتيجية الإسلامية ؛ لأنه يوحد التصورات الفكرية، ويصهر الفروق العرقية والإقليمية والاجتماعية، ويبلور للمجتمع حاضرا مشتركا يتعمق ليصبح تاريخا في أمريكا أمام عوامل الذوبان القوية المحيطة بهم.. وهذا الشمول في التطبيق هـو الذي " عناه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين ذكر أنهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتعلمون من القرآن ثلاث أو أربع آيات فلا يزيدون عليها حتى يعملوا بها، ثم أضاف:.. فتعلمنا العلم والعمل سواء.. " ويجب أن ننبه إلى أن هـذا التطبيق الجماعي، يختلف عن الانتماء العرقي أو الحزبي الذي يقتصر على رابطة الانتماء النفسي فقط.

والشرط الثالث: هـو التواضع والشفقة على الآخرين

فالمسلمون لا يتعالون، ولا يدعون أنهم شعب الله المختار، وإنما هـم رحمة الله للآخرين، ومجتمعهم مجتمع غير مغلق، وإنما هـو مجتمع مفتوح لكل من يبحث عن الهوية والانتماء . فالخلق كلهم -كما يقول الرازي في تفسيره- أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، المؤمنون أمة الاتباع.. وغير المؤمنين هـم أمة الدعوة.. ووظيفة المسلم أن ينطلق بين أمة الدعوة لتلتحق بأمة الاتباع.

كما أن العلة الرئيسة لخروج المسلمين هـي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتاريخ يثبت أنه حين تقاعس المسلمون عن هـذه الوظيفة، وعن الزحف إلى ديار أمة الدعوة، جاء الله بالذين هـم في حاجة إلى الدعوة في شكل جيوش غازية تدمر منشآت الدنيا التي ألهت المسلمين عن أداء واجبهم، ثم يسر لهم بعد ذلك، الاطلاع على الإسلام، كما حدث في تاريخ الغزوات المغولية وغيرها.

والشرط الرابع: هـو الأصالة والتميز

وهذا يقتضي أمور عدة منها: الحذر من جعل الانتماء الإسلامي انتماء عرقيا أو طائفيا، أو ما يعرف عند [ ص: 135 ] الأمريكيين باسم Ethnic groups، فهذه الظاهرة قد أوجدت بين المسلمين في أمريكا ظاهرة المساجد الإقليمية أو الاتحادات الإقليمية ، مع أنه لا يجوز أن يرتفع إلى جانب اسم الله في المساجد أي اسم آخر. فلا يجوز أن تقوم مساجد للعرب، ومساجد للقوقاز، ومساجد للشركس، ومساجد للأتراك، ومساجد للباكستانيين، ومساجد للسود، ومساجد للبيض: ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ) ( الجن: 18 ) ، ولا بد للمسلمين في أمريكا أن يحرصوا على تأسيس المسجد الجامع الذي يجمع المسلمين وقضاياهم تحت قبة واحدة وقيادة واحدة، وأن لا يسمحوا بانتشار مساجد الضرار التي تفرق المسلمين وتمزقهم إلى مجموعات صغيرة تتناثر في هـذه الولاية أو تلك ( والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين ) (التوبة: 107) .

ولا يجوز كذلك أن يقوم داخل الاتحاد الإسلامي الكبير، اتحاد للطلبة الباكستانيين أو اتحاد للعرب، أو اتحاد للمصريين، أو اتحاد لليبيين، أو اتحاد للعراقيين، فإن هـذه الأمة قد أرادها الله أمة واحدة وسماها -منذ رسالة إبراهيم عليه السلام - (بالمسلمين ) .

والأمر الثاني: أنه لا بد من الحذر من التقاليد المحيطة التي تتعارض مع روح الإسلام والتي انتهت بالمجتمع الأمريكي إلى هـذا الدرك المرعب.. والتقاليد التي أعنيها، لا تقتصر كذلك على ميادين الأخلاق والقيم بل تشمل الممارسات التنظيمية والإدارية.

وهنا لا بد أن يميز المسلمون في أمريكا بين المعتقد والتقليد الذي منع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر من المطالعة في صحيفة مـن التوراة بين (الحكمة ) التي اعتبرها ضالة المسلم أنى وجدها فهو أحق الناس بها، وفي هـذا المجال لا بد من الإشارة إلى أن المسلمين في أمريكا -ومنهم اتحادات الطلبة والجمعيات- لا بد لهم من الأخذ بأشكال الحكمة التنظيمية والإدارية المتقدمة، ولكنهم مدعوون للحذر [ ص: 136 ] من الأطر والمصطلحات التي تجسد قيم الطبقة والفوارق الاجتماعية فالمسلمون هـنا يستعملون قسمين من الأطر التنظيمية والمصطلحات الإدارية: قسم يتبنى أشكال الممارسات الأمريكية في النشاط والحفلات ويستعملون المصطلحات الأمريكية مثل President رئيس، و Secretary أمين سر، و Treasurer أمين صندوق، وهم يركزون على استعمال اللغة الإنجليزية -لحاجة أو لغير حاجة- ويتخذون منها اللغة الأولى في نشاطاتهم وممارساتهم حتى في مراسلاتهم مع العالم العربي، وكثير منهم يقلدون المجتمع الأمريكي في حفلاتهم ولباسهم.

وقسم -بعض جماعات المسلمين السود- يتبنى أساليب التنظيم الحديث في الإدارة والنشاط، إلا أنه يصهرها في بوتقة القيم الإسلامية ويستعمل لها المصطلحات الإسلامية مثل: أمير، وإمام، وخليفة، ومسجد، ويركزون على استعمال العربية في مصطلحاتهم وأساليب وعظهم وتحيتهم، ويجتهدون في تعلمها ونطقها نطقا صحيحا، ويلبسون اللباس الإسلامي ويحرصون على تطبيق السنة والأخلاق الإسلامية في اجتماعاتهم وحفلاتهم.

والواقع أن لكلا الأسلوبين أثره في تكوين الجماعة الإسلامية وفي تحديد مسار المستقبل، فكثير من المصطلحات العربية لا يوجد لها مقابل في الإنجليزية أبدا. فلفظ. الجلالة (الله) لا تقابله كلمة God، ومصطلح ( دين ) يختلف محتواه عن كلمة Religion، ومصطلح ( مسجد ) يختلف عنMosque، ومصطلح ( إمام ) لا يقابله Leader، وكلمة ( زوجة ) لا يقابلها Wife، التي تعني أصلا ممتلكات الرجل، وكلمة ( زوج ) لا يقابلها Husband، التي تعني السيد والمالك.. والأمثلة على ذلك كثيرة، وما أعنيه هـنا: المصطلحات لا اللغة كاملة، وقديما تسربت هـذه المصطلحات في لغات المسلمين غير العرب ولم يجدوا لها مقابلا، والأسلوب الأول ينتهي بجماعات المسلمين إلى الذوبان في المجتمع الأمريكي بينما الثاني يقودهم إلى التميز وتقديم المثل والقدوة. [ ص: 137 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية